الدستور – خليل قنديل
الفنان المبدع لا يستطيع ان يقع في فخ التشابه ووضع الرأس بين الرؤوس بل يسعى دائما نحو الاختلاف والتمايز والعمل الدؤوب نحو الاشارة الدائمة من ثمة حالة انسانية عبرت من هنا من هذا المكان ومن وسط هؤلاء الناس واكدت حضورها واختلافها من خلال منجزها الفني.
ما اشرت اليه ها هنا ينطبق تماما على الفنان التشكيلي محمد الجالوس الذي استطاع ان يشيد تجربته الفنية عبر عقدين من عرقه الخاص ومن تعبه كي ينجز لوحته المتميزة وتجربته المتميزة ايضا.
الجالوس يفتتح معرضه التشكيلي: وجوه من الداخل في الساعة السادسة من مساء اليوم في دار الاندى.
حول هذا المعرض وقضايا فنية تخص تجربته كان هذا اللقاء:
* المتتبع لمعارضك السابقة يلحظ الحاحك الخاص على رغبة كسر رسالة التجربة بالنقلة المباغتة والناضجة الا تخاف من الوقوع في المجازفة والتجريب؟
– لدي اعتقاد اكيد بان التجربة الفنية هي تجربة مفتوحة بنوافذ مشرعة تمتلك حركتها الداخلية بل وروحها الخاصة وحياتها المستقلة وهي ضمن هذا المفهوم تجربة تتنفس وتعيش كباقي الاشياء والكائنات وضمن هذه الطاقة الخاصة على الفنان والمبدع ان يبقى مفتوح العينين دائما حتى لحظة النوم والسبات وهنا اجدني دائما وفي كل معرض جديد او مغامرة جديدة مشدودا الى تلك الروح، اتابعها بل واحاول التماهي معها كي امسك لحظاتها الحاسمة، دون خوف او تردد لذا قيل في الماضي وسيقال لاحقا، انني املك من حس المغامرة ما يدفعني الى عدم الركون الى منجز تشكيلي بعينه.
الى جانب ذلك اعتقد ايضا، وقد عبرت عن هذا المعنى في غير مكان ان فكرة الركون الى الاسلوب، هي فكرة ناقصة تخفي قلق الفنان من المستقبل وتخفي هواجس الثبات او الجمود، بشكل اوضح ولعل هذه الفكرة المجنونة واقصد هنا فكرة الاسلوب قد جاءت لحل هذه المعضلة لدى المبدع، والجمهور على حد سواء، فالجمهور المتابع للعملية الفنية والجمهور المقتني بالمفهوم الاقتصادي يدفع الفنان دائما الى زوايا الثبات اما لاعجابه المستمر بهذا النوع من الاعمال او التقنية واما للحفاظ على الاستثمار الذي انفقه في الشراء او الاقتناء وهو ثبات، يبقي على صحة الخيار او تأكيد للذات على صحة التوجه والذوق الفني وضمن هذا المفهوم، تتحول العاطفة الخاصة بالمستثمر او المقتني الى جدار صلب يحول دون اطلاق العنان للفنان كي يمارس جنونه الابداعي في الدخول الى المحظور.
واعتقد ايضا ان الفنان الذي يثبت تجربته ضمن اسلوبية واحدة يظل يكررها عشرات السنين، هو فاقد لشجاعة البحث وربما القدرة عليه، فالتجربة تكتمل وتستقر فقط عندما يموت الفنان ولا يعود بامكانه التحليق عاليا في سماء الحياة والفن معا.
* بالرغم من ذهابك الدائم في الامكنة الا ان مكانك الاول يشكل نقطة جاذبة لالوانك الابداعية، ما هي قصة الذاكرة عندك وما مدى ارتباطها بمنجزك التشكيلي؟
– ببساطة شديدة، انا مدين لذاكرتي في كل التجارب التي قمت بها على مستوى الموضوع او التقنية وقد اكتشفت كل ذلك منذ سنوات قليلة، عندما عدت للبيئة الاولى تلك التي عشت فيها سنوات طفولتي، وتحسست من جديد تلك الجدران والازقة وربما التراب المعجون بالحصى وبقايا واثار الاقدام، هناك اقتربت اكثر من كنزي الخاص، مشروعية ما اقوم به على مستوى التقنية الفنية وحتى اللون، اقتربت اكثر من ذاكرتي التي كانت تلح دائما على جدران بعينها، وملامس بعينها، وقلت بعد ان عبرت بشكل مبدع المخرجة سوسن دروزه عن هذا الربط بين بيئة الطفولة واعمال فنية كانت ترتبط دائما في الوعي، على انها مكتسبة اما بفعل السفر الذي تورطت به سنوات طويلة او تجارب لفنانين غربيين بالتحديد. لاكتشف بعد تشخيص هذه المخرجة المبدعة، ان ما لدي هو من بقايا ذاكرتي، وجزء مما اعتادت عيني النظر اليه وحتى التقنية الخاصة بمعجون الورق الذي اشكل به وجوه من ارسمهم، هو ذاته مما اعتاد الاطفال الخوض فيه وتشكيل الدمى وحتى التماثيل التي لطالما امتعنا اللعب بها في طفولة معذبة لكنها مصدر للبهجة والفخر.
باختصار منجزي التشكيلي بكامله مدين لهذه الذاكرة وهو محاولة لرد الجميل لاناي الطفل.
* في معرضك الذي يفتتح اليوم، وجوه من الداخل، ثمة حميمية خاصة، يحتكم اليها اللون، من خلال ذاكرة وجوه تكتنز بها ذاكرتك، ما سر حضور كل هذه الوجوه الآن؟
– هو ذات السر الذي يبقي اناسا عرفناهم في أزمنة بعيدة خالدين في الذاكرة، باحثين في اماكنهم الحميمة، يتسابقون لتقديم البهجة او الشجن، وهم أناس عاشوا معنا على مقاعد الدراسة، وكانوا هناك في الأزقة والطرقات المسكونة بالصمت او الضجيج، هم ذات الأشخاص، بملامحهم الثابتة او المائلة للرمادي او الابيض المتلاشي، هم أبي وأمي ورفاق الطفولة ووجوه الشهداء، الذين اخجل منهم كثيراً، ووجه ابني وزوجتي وابنة الجيران او الصديق العابر وربما وجوه اقترحها للمساحة او محيط العمل الفني، كلها وجوهي، واحاول أن اقيم معها الحوار من داخلها، ربما لأن شكلها الطيني البسيط والمختزل، دفعني للوقوع معها في خطيئة الحب، مع احتمالات غيابها الدائم، ورحيلها الى الابد.
هذه الوجوه، بحضورها الطاغي على سطح اللوحة، تعلن بالحاح عن وجهي وربما تشبثي بما بقي منها، باختصار، هذه الوجوه استدرجها كي تعلن عن ملامحها لاعيد المصالحة معي.
* تقنية خاصة، احتملها معرضك، من حيث التقطيع الشطرنجي لسطح اللوحة، ثم حضور الوجه (البؤرة) وانبثاق الوجوه المتفرغة منه، وتدرجات الأزرق المبتهج، نحو الخفوت ورمادية الموت والذاكرة او العكس.
ما الذي يمكن ان تقوله عن هذه التقنية؟
– احياناً، وعندما تفاجئنا بعض الوجوه في اماكن متبانية، نحس وكأننا نعرف هذه الملامح. بل نألفها ونعتقد اننا شاهدناها في مكان ما او زمان ما، وربما تكون وجوه لبشر قد جاءوا من عوالم لم نهبط بها ابداً.
إذن، هي الذاكرة تلك المعبأة بوجوه لا حصر لها، وهي اللحظة ان نمسك بها فجأة ليقفز وجها لرجل أو سيدة، وما احس به شخصياً لحظة الرسم والتعبير، هو مزيج من التفاصيل تأخذ شكل رقعة الشطرنج، وأحياناً اخاف على هذه الوجوه من التلاشي، فاحصرها في مساحات هندسية، وكأني اعلن عن وجودها واستقلالها بل ومكانتها الفريدة.
أما عن التقنية، فأنا مفتون بالتجريب الدائم، ولدي الرغبة الدائمة في الوقوف على النوافذ المشرعة مقيماً حوار الحركة ورافضاً فكرة السكوت والثبات وسأظل كذلك حتى تتوقف لدي هذه الرغبة او اكف عن جنون التحليق، وقطعاً لا أتمنى ذ لك.