في العام 1998 حظيت بدعوة من وزارة الثقافة الفلسطينية لمهرجان رامالله الأول، كان ذلك في صيف العام نفسه عندما انطلقت العربة باتجاه نابلس، وكانيجلس في المقعد الخلفي امرأة في العقد الخامس وفتاة في أواسط عقدها الثاني، ورجلمسن، يرتدي كوفية بيضاء مرقطة بالأسود ، وبيده قطعة قماش حمراء، كان حريصاً عليضمها إلي صدره طوال الرحلة.
الوجهة نابلس، هكذا استقبلت يومي الثالث في رامالله، لم أنم ليلتها كما ينبغي، كان صديقي الدكتور مجيد عوض يصرّ علي ملء الليلة،بحديث الذكريات، والتعليق بين قصة وأخري علي مقالب صديقنا عزت الراميني، وحدها رحلةنابلس، كانت تسيطر علي،… تري هل سأتمكن من السير في شوارع المدينة وحيداً، دونلقاء جنود الاحتلال؟ هل ثمة حواجز علي الطرقات، وهل سيكون بمقدوري تصوير المدينة منالداخل، رسم ملامحها، الحديث مع أهلها؟ كل هذه الأسئلة ظلت تلح علي، وأكثر منها،هواجس الطريق.
العربة تسير بسرعة، وعلي أطراف الشارع، ثمة مرتفعات وسهوب،يعتريها الصمت، وقليل من أشجار الزيتون المنتشرة في الوديان، فجأة أطلت كتلة ضخمةمن البنايات علي قمة الجبل، ملت إلي السائق الذي كنت أجلس بجانبه في المقعد الأماميوسألت: هل هذه البنايات لفلسطينيين؟ أجاب بكثير من الغصة، انها مستعمرة، ثم أردف: الأخ ليس من نابلس! قلت: اتيت من عمان، أجاب: أهلاً وسهلاً، كيف أخبار عمان؟ لقدأقمت فيها لعشر سنوات مضت، قبل مجيء السلطة، وها أنذا كما تري أعمل سائقاً علي خطنابلس. كان الرجل يفرك أرنبة أنفه بين لحظة وأخري، يده علي المقود، وأصابعه تدندنعلي وقع أغنية لفيروز، قلت: هل الطريق طويل؟… كم تبقي من الوقت؟ أجاب: ربع ساعةأو أقل وأضاف: هذه زيارتك الأولي لنابلس؟ قلت: نعم. ومضت العربة تطوي الشارع سيءالتعبيد.
كنت موزعاً بين فكرتين، الأولي حول المدينة، وهل سأتمكن من السير فيهاوحيداً، دون أن أضل الطريق، أما الثانية، فهي فرحي الداخلي في لقاءٍ لطالما حلمتُبه، أوليست نابلس، حاملة عبق التاريخ وثالوث بلاد الشام، القدس، نابلس،دمشق.
منذ العام 1992 وانا ارسم المدن التي احب، تقليد اخذته علي نفسي من زمان،بدأته بمدينة الفحيص الاردنية ثم السلط وصولا الي القدس في العام 2000 وهي محطةاعيد بها علاقتي بالطبيعة كمرجع وذريعة للتجريد الذي انتمي له واحبه، حيث اعيد بناءما انكسر في علاقتي بالمرئي واترك وثيقة للمكان هي جزء من مهمتي كرسام كمااعتقد.
هناك في العام 1996 عندما رسمت مدينة السلط، بحجارتها الذهبية التي قدتمن جبال البلقاء، كان الكل يذكرني بالشبه الكبير بين نابلس والسلط، وكنت أحسُ فيحجارة المدينة أن ثمة ما هو أكثر من الشبه المعماري، فأهل نابلس الذين هاجروا إليالسلط في مطلع القرن الماضي أو بعد النكبة الأولي، أصبحوا من أهلها بامتياز،يحتفظون أو هكذا جداتهم وأجدادهم بالعادات النابلسية القديمة، بنوا بيوتهم كمافعلوا في نابلس تماماً، بذات العقل المعماري المبدع والبدائي، وقد وجدوا في أهلالسلط، أنصاراً حقيقيين، ضيقوا وحشة الجغرافيا وتواصلوا مع حقيقةالتاريخ.
العربة تقترب أكثر فأكثر… ونابلس تطل من بعيد، للوهلة الأولي ظننتأنني في السلط، فهذا الوادي الذي يفصل جبلي المدينة، هو ذات الوادي الذي يقسم السلطإلي قسمين.
وهذه البيوت التي تصعد الجبل دون تعب، هي ذات البيوت التي ذكرتهاالجدة المبدعة فدوي طوقان في كتابها، رحلة جبلية رحلة صعبة، اظنها كانت تشير اليوعورة مسيرتها ووعورة الجغرافيا، وهنا ايضا ارتفع صوت شاعر فلسطين ابراهيم طوقانبأنشودة موطني، وهنا كتب الثلاثاء الحمراء، سيرة محمد جمجوم وعطا الزير وفؤادحجازي، وهنا مرت قوافل المدنية الاولي، فنابلس كما كتب المؤرخون، واحدة من اقدمالمدن واكثرها تأثيراً في تاريخ المنطقة، وهنا كتبت بالدم سيرة جبل النار، وحكتقلعة الثوار اسرارها كي يمر الليل ويمنح العشاق يرغول الغناء، ومواويل الميجناوزريف الطول. هنا حمل البناؤون، حجارة الوادي وارتقوا بها كي يرفعو اعمدة الحاراتواقواس الممرات وقباب الساحات، وهنا عقدوا الدبكات ولوحت الصبايا بالمناديل، هناكانوا وهنا يبقون، ان جاعت يطعمونها لحم صدورهم ويسوقون الغيم من ابطه كي لا تعطش.
توقفت العربة في محطة الباصات،… الوجوه ذاتها وهي التي اعرف من عمان اللباس،الأطفال.. كل شيء بدا لي مألوفاً، وقفت للحظات، أتأمل جبلي عيبال وجرزيم، قلت: ياالله، ما أجمل هذه البيوت التي تعانق السماء، تماماً، ذات العبارة، هذا ما قلته فيزيارتي الأولي للسلط.
سرت بحذرٍ أول الأمر، ثم توقفت أمام كوخ صغير علي حافةالشارع، بحثت في جيبي عن عملة أردنية، قلت لبائع الماء والشاي: هل هذه تصلح للشراء؟أجاب بسرعة: طبعاً، تناولت زجاجة ماء بارد وذهبت.
تري من أين أبدأ، التبس عليالأمر، اخترت حارة قديمة، بيوتها مزينة بالأقواس، كانت الأزقة تستدرجني شيئاًفشيئاً، استسلمت للظلال التي ارخت خيوطها الهادئة علي أرض معبدة بالاسمنت، الممراتتعبق برائحة الياسمين، القباب التي تظلل الممرات، الأبواب التي تتقابل في ذاتالزقاق، كأنها بيت العائلة، أبواب هنا وأبواب هناك، انعطفت إلي اليمين، وكنت تائهالخطي، هل أدخل هذه الحارة المعتمة، أم استمر بالسير في الزقاق المضيء؟ قلت لنفسي: لأجرب هذا الطريق الضيق المعتم، عله يفضي إلي بيوت قديمة أخري.
يا الله، وجدتضالتي،… أنا في المكان الذي أعشق، طفل صغير في العاشرة أو أكثر بقليل، يرتديبلوزه حمراء، كتب عليها اسم ماركة تجارية عالمية (Levis)، يرتدي بنطالاً داكناللون، وحذاء رياضياً لم يربطه جيداً، ملامحه جميلة، وشعره القصير مائل للشقرة، كانيتبعني دون أن أشعر، انتبهت إليه، توقفت وسألته عن هذه الحارة العجيبة، قال بنباهةالطفل الجريء والذكي معاً: هذه حارة الياسمينة،… إذاً أنا في حارة الياسمينة ،وبقي هذا الطفل يتبعني، ثم تبادلت معه بعض العبارات، حول بيته وأهله، كان يجيب دونتحفظ..
الآن صرت أكثر جرأة علي دخول الممرات وأقواس البيوت التي تفضي جميعها إليساحات ضيقة، تفصل عائلة عن أخري، أصبح معي الآن، صديقي الصغير، جهاد، … لا أذكراسمه بالضبط ولكنه علي الأغلب، جهاد، فقد كان اسمه مشتقاً من عبارات النضالوالكفاح.
مرت سنوات عشر علي لقائي به للمرة الأولي، يجتاحني السؤال الآن حولمصيره، تري أين انت يا جهاد، هل ما زلت تجوب حارة الياسمينة ، وانت الان شاب فيالعشرين أو أكثر بقليل، أم دهمك العدو وأنت في الزقاق، في أتون الانتفاضة الثانية؟أصرت أسيراً، في اقبيته الباردة؟ ربما جريحاً، او شهيداً؟ مصيرك مفتوح علي مصراعيه،او قد تكون الآن منفياً خارج وطنك.
هاانذا ارسم الحارات التي جبناها معاً، الوانالظلال التي وقفنا تحتها، كنا نلوذ بها من وطأة الشمس الحارقة ونستعير منها لغةالياسمين ونتفيأ باغصان النارنج، هل تذكر يا جهاد كيف تحلق حولنا الصبية كي نلتقطلهم الصور، وكيف دعانا الرجل المسن الي بيت دمره الزلزال قبل الف عام، تناولنا معاًالشاي وحدثنا الشيخ عن ذكريات الانتفاضة الاولي، هل تذكر؟
يستبد بي الشوق، إليكيا جهاد، يا صغيري الذي قادني ذات صباح إلي مشارف الياسمين، وظلال البيوتالحنونة.
خطوة خطوتان ونعبر الممر المعتم، تاخذنا الطريق الضيقة الي درج يفضيالي بوابة بقوس وجدار تتناسل من جوفه النباتات وبقايا الاغصان الصفراء وجدار قديمكتب عليه بعض عبارات الحب واثار لملصق قديم يحمل صورة شهيد. في الزقاق المفضي اليشارع السوق، بدت لي الالوان والبضائع المنتشرة علي ابواب المحال التجارية، ساحةكرنفال، الكنافة النابلسية ويافطة كتب عليها مطعم العكر، قلت لنفسي: ليس من الحكمةان ازور نابلس ولا اتناول الكنافة، دلفت الي المطعم ووقفت في زاوية تمكنني منمتابعة المشهد كاملاً.
من الداخل راقبت وجوه الناس وعلي مسافة قريبة كان يطل برجالساعة، سرت اليه بخطاً وئيدة، ثمة حراس يرتدون زي الشرطة الفلسطينية، بعد ان القيتالتحية، قلت للشرطي: هل من الممكن الصعود الي هذا البرج؟ اتمني ان التقط صورةللمدينة من هناك، واشرت بيدي الي الطابق العلوي، تلكأ بالرد، تبادل النظرات معزميله وسألني: هل انت صحفي؟ قلت: لا، انا رسام، من مخيم الوحدات، ابتسموسمح ليبالصعود.
يا الله، من بني كل هذه البيوت الجميلة، ومن زرع هذا الياسمين الذييطوق الأبواب والجدران، يتصاعد رويداً رويداً، حتي يصل الشرفات، في الطوابقالعلوية؟ انه جدي القديم، ذات الجد الذي كان يسافر فجراً إلي الشام، حاملاً بضائعهوزوادة الطريق، كي يعود مسرعاً في اليوم التالي، محملاً بالحلاوة الدمشقية وشتلاتالنارنج والليمون،… كنت حريصاً جداً علي توثيق كل ما رأيت، البيوت، الشوارع،الأزقة، القباب، وكنت حريصاً أيضاً علي حفظها في عيني وقلبي، عندما أعود لعمان سوفأرسم كل ما رأيت، وها أنذا قد عدت.. مرت سنوات طويلة، قبل أن أفتح علبة الذكريات،واقلِّب صور ورسومات نابلس، وتلك الحارة التي امتدت إليها يد العدو الصهيونيبالتدمير في الانتفاضة الثانية، لقد ظلت عصية علي دوريات الاحتلال، بازقتها الضيقةولم تمنح بواباتها للجنود، يحرسها الشباب في الليل وفي النهار يغلقون مداخلهابالحجارة والطوب، كانت الحارة لعنتهم وياسمينها عدوهم اللدود.
مرت أعوام عشرةعلي زيارتي لنابلس، وذات مساء عماني ومن شرفة بيتي المطلة علي صحن المدينة، كنتأحدث صديق طفولتي وابن مخيمي، ناصر عبدالكريم حول تلك الرحلة، وعن حلمي برسم مارأيت، وحفظه للتاريخ، لم يعلق صاحبي في ذات الليلة، لكنه ظل يفكر في الأمر، استسلمكما فعلت، لحلم جميل،.. الحارة تنهض من دمارها وتنفض عنها غبار القذائف التي طالتمسجدها القديم، وياسمين بيوتها الأزلي، لم يعلق يومها، فقط هاتفني في صباح اليومالتالي، وقال: لماذا لا ترسم نابلس، ولماذا لا تبدأ اليوم بتوثيق ما رأيت وما تعرضللهدم والدمار؟ قلت، هل تعتقد ذلك؟ هل الوقت مناسب؟… قال: الوقت مناسب دائماًللعمل من أجل فلسطين، أنت منذ اليوم، رهن الياسمين.
بهذه العبارة، وجدتني أعبرنابلس، تعبرني الحارة، تملأ قلبي ووقتي، لأقدم لصديقي ناصر، عنوان محبة، وهو زارعالياسمين كما أحب أن أسميه، وللحارة درة نابلس وحاملة أسرارها، وأسرار أهلهاالطيبين، الذين ما زالوا يسقون بدمهم شتلات الياسمين لتظل تتعربش علي مداخل بيوتهموتحفظ لهم ولجدي، ذكريات رحلة الشام الصباحية، حكاية جبل النار.
فنان تشكيلي منالاردن