لقد مرّت لوحتي بمحطات مختلفة، ظل دائماً يربطها إيماني الكبير بالتجريد، كمقترح بصري، وظل التجريد من وجهة نظري هو الدخول الدائم للطبيعة كمرجع، وكمتعةٍ أمارسها بنشوة الاكتشاف، وإن داهم هذا البحث، وجوه بقيتُ أخططها في فترة الثمانينات ثم تحولَتْ الى بقع لونية بخطوط عابرة في معارضي الثلاثة الأخيرة، وهي هنا وجوه احتفظت بطاقتها التعبيرية الاجتماعية، من حيث أنها مرجع وكنز بقي يلازمني منذ الطفولة ، وجوه لأناس ٍأعرفهم وملامح تقاوم النسيان، وتعبر به ذواتها، بل وتلزِمني الإبقاء عليها كما هي، بتفاصيلها وغموضها وأحياناً قسوة ملامحها، ولعلي في هذه المغامرة المكشوفة، كنت أقول نفسي ومن حولي، بقليل من الكلام وكثير من اللون كيف لي أن أتخلص من ذاكرتي وكيف لي ألا أحاصر هذه الوجوه في مربع الشك ومربع الدهشة، فهي لن تتخلص مني إن حاولت أن تكشف ما في داخلي بعيونها المغمضة، وتقول دواخلها دون استئذان أو عتب، هذه الوجوه هي ذاتها التي دفعت بي الى أتون القسوة، قسوة السطح الخشن، حتى أنها تنازلت عن ملامحها ودخلت في دائرة البصري البحت، مربع التجريد، دون أن تفقد سطوتها على العين، فهي حاضرة في غيابها، تحاصرها ضربات السكين وتداعيات معجون الورق الذي لطالما شكلتُها به، في سنوات عديدة مرت.
اقترحت في معرضي الاخير ( شجن مجرد ) ، حلولاً لغياب الملامح، تحيل التعبيري إلى بصري، وتحيل البصري الى مشهد من الطبيعة الأم، كيف لا والطبيعة هنا هي الأمل وحاملة الأسرار، أقصد أسرار المادة، تلك التي أعمل بها وعليها منذ أكثر من عقدين وما أزال.
أما اللوحة، صديقتي التي غالبا” ما أتصالح معها، تاخذني إلى مناطقها هي، بل وتستدرجني إلى عالمها حين أستسلم راغبا” لحركة يدي او عناد فرشاتي، فتأتي الالوان طازجة ومحمولة على جناح العاطفة الجياشة، على أن هذه العلاقة التي امتدت على مدار ربع قرن او أكثر بقليل، ظلت دائماً محفوفة بالقلق ونزعة التجريب، وغياب الرضى، فمنجزي البصري بعد كل هذه السنوات لم يمنحني اليقين بما رسمتُ أوبلوغ ما أحلم به .
في بداياتي الأولى أدهشتني المدرسة العراقية في الرسم وكنت مأخوذاً باعمال ضياء العزاوي حتى التقليد، حتى أنه التبس الأمر على ضياء حين زارني في بداية الثمانينيّات في بيتي، الأمر الذي دفعني للتفكير ملياً بما أرسم، كان لابدّ من البحث عن أناي البصرية بعيداً عن صرامة التصميم في لوحة ضياء وغلبة اللون الصريح.
لا بد من الاشارة هنا الى بدايتي ككاتب قصة، كان ذلك في أوائل الثمانينيّات حين أصدرت مجموعتي القصصية الأولى، ذاكرة رصيف، وكنت مندفعاً بفعل ثقافتي المبكرة وانفتاحي على الفن النثري وهي فترة سيطرتْ عليّ فيها ذهنية البناء اللغوي حتى جاءت أعمالي في تلك الفترة وأقصد أواسط الثمانينيّات، مشحونة بطاقة العقل والتخطيط ما بين اللونين الأسود والأبيض، وقد أنجزتُ المئات من الرسومات، منها ما استعمله الاصدقاء من الكتّاب كرسومات داخلية لنتاجهم الأدبي من شعر وقصة، على أن هذه الذهنية قد حالت دوني وبصرية المشهد الطبيعي وسرعان ما تخلصت منها في أعمال الثمانينيات الأخيرة، حين تحولت تجربتي الى لونية كاملة، أكدها رحيلي باتجاه المشهد الطبيعي كما حدث في بيوت من الفحيص ثم السلط والقدس وقريباً نابلس، وهي محطات طبيعية تخللت بحثي التجريدي منذ بداية التسعينيّات وكانت بالنسبة لي عودةً للمرجع الأساس الطبيعة. وهي مصالحة وحنين للمكان، فيها بعض الوفاء لأماكن في القلب، تربطني بها ذكريات حلوة، وتوثيق ربما لا يلتفت له فناننا العربي المعاصر، في ضوضاء البحث عن الهوية .
قلت الهوية !؟ إذا كان الفن التشكيلي عموماً، هو تجربة إنسانية واسعة ونتاج لرحلة البحث الأوروبي سواء من خلال لوحة المسند او أيقونة الجدار فان البحث الواهي عن الهوية العربية في اللوحة هو ضرب من البدعة ركن إليها بعض الباحثين والفنانين العرب كإطار جدلي للتأسيس لفن عربي مستقل، ربما قصد هؤلاء من وراء ذلك، تضمين عناصر اللوحة بعض الإشارات الحروفية في سياقها التشكيلي أو اللغوي وهو تضمين لا يكفي للزعم بوجود لوحة عربية مستقلة، فربما تشير بعض العناصر البيئية في العمل الى خصوصية أسلوبية لفنان ما، لكنها بالتاكيد لا تؤشر الى هوية عرقية او قومية بعينها، فالبصر عام والبصيرة خاصة، وهي التي تحمل من يمتلكها الى أناه هو، وليس أنا أمته او هوية شعبه .
لقد عشت كل هذه السنوات، محاولاً وباحثاً في الخط واللون، تسيطر علي فكرة الخامة وأشواق التجديد، أحياناً كنت أقف على مسافة قريبة من تجارب آخرين، وأشكال هي ليست من أملاك فنان بعينه، بل تأتي على حافة خطرة وملتبسة كانت تدفعني للانقلاب على منجزي دون أسف أو خوف من التجريب، كنت أبحث عن لوحتي رغم قناعتي بأن الفن المعاصر لم يبقِ للفنان إلا مساحة ضيقة للاختراع والتفرد، إذ ليس هناك من جديد أمام الفنان المعاصر غير روحِهِ التي يثبُ بها ومخزونِه البصري، وخامةٍ ربما يستعيرها من بقايا الطبيعة يحمل بها مقترحه التشكيلي إلى عين المشاهد .
هي رحلة ممتعة وصاخبة، كانت مصدر فرحي وقلقي معاً. لقد مررت بمحطات مختلفة، دائماً كان يربطها الحنين لطفولتي وتشجيع والدتي لخربشاتي الاولى، وهي التي لا تتقن القراءة والكتابة، كانت تتقن الاستمتاع بالجمال وتقترح ما يضيف لعملي من روحها الشعبية البسيطة.
قبل أن تنطلق لوحتي لفضاء تجريدي خالص في بداية التسعينيّات، كنت قد أخذت بالمشهد البدوي وحركة الناس في مناخ صحراوي صامت، لم أتوقّف طويلاً ضمن هذا البحث، رغم دعم المشاهدين من عرب وأجانب وعاطفتهم الجماعية، فالعاطفة الجماعية ضمن هذا السياق تدفع الفنان في كثير من مراحل عمله الفني إلى الركون لمنجز بعينه أو أسلوب بعينه، الأمر الذي يحول دون بحثه وشجاعته في الانقلاب على لوحته وتطويرها وهي عاطفة مضللة كونها تنحصر في ذائقة جمالية خاصة لا تسمح لكثير من الفنانين بحرية الانتقال الى خامات او أشكال مختلفة. فالغيبوبة لا تصيب المرضى فقط، بل التجارب الفنية والفنانين.
هناك .. حيث الطفولة تذهب بعيداً في لوحتي، ثمة جدران كنت أرسم على سطحها أشكالي الأولى، وأصباغ هي بقايا الحناء أو سطوة السخام الذي أتينا به من فحم المواقد في شتاء المخيم، شتاء القسوة والمطر الذي يغرق الطريق إلى المدرسة، وعيادة الوكالة أو مطعمها العمومي، كنت وأطفال الحارة نصطف في طابور طويل بغية الحصول على وجبة ساخنة مضافاً إليها الحليب أو حبة زيت السمك.. هناك بعيداً حيث ما زلت كنا نرسم صور الطائرات، وطيور الحب، ونكتب أسماء البنات دون استئذان بشجاعة فائقة، ونغرز فيها قلوب العشق الأول، وسهام التلويحة الأولى، كان ثمة لوحة مهيئة دائماً للرسم، هي جدران بيتي، تلك التي عادت مرة أخرى الى لوحتي، وقد استحضرتها كي أرى وجهي الطفل من جديد، فهي لوحات لا تنتمي للفن المعاصر بل تنتمي لحارتي بل وتعلمني، كلما استعصى علي شيء من التشكيل سواء عربي أو عالمي، وهذه المسننات التي يراها المشاهد داخل النص البصري، ما هي إلا استعارة من الكرتون المسنن، ذلك الذي أضفته لأعمالي في التسعينيات، وأصبح الآن أصيلاً على السطح دون لصق أو كولاج، هي ببساطة حرية الرسم، بلا قيود أو مسميات، أو أسلوبية، قلت أسلوبية!؟ إنها كذبة يخبئ الفنان عورته بها، خوفاً من البحث أو التجريب، فالفنان بكليته كما أرى، هو أسلوبه، أفراحه، أحزانه وأصابعه التي لا تغادر عاداتها وإن حاولت.
أما المجنزرات، فقد تركت آثارها الموحشة في نسيج لحمنا ولم تكتفِ بتراب أزقتنا أو رمل صحرائنا، لا أدعى أنني مهتم بتتبع خطاها، بل أدفعها بجمال الطبيعة وغموض شكلها.
لا أخفي إعجابي بالمنمنمات، وهي طارئة على لوحتي، فليس لديّ الصبر على حبس أنفاسي طويلاً كي أرسمها، بل هي زيارة قصيرة جداً، لتنقيط عابر داهم لوحتي ذات مساء أو صباح لا أذكر، وهو تنقيط غير مقيم. المقيم في داخلي ويدي هو محو التفاصيل بالفرشاة العريضة، تلك التي تمنحني فرح الرسم وتُبقي عليّ ولي حرية البحث والرقص بعيداً عن الأناة، فأنا متسرع في علاقتي باللوحة، وهذا التسرع مبعثه طفولتي التي أحاول الإمساك بها وهي تهرب وأنا أتبعها متلعثم الكلام حاث الخطى مرتجف الأطراف، أستحلفها أن تبقى فيّ وأن لا يدهمها النسيان.
أما عن الصوفية، فهي بالنسبة لي هذا الزهد اللوني الذي صبغ فكر من تصوفوا عبر مئات السنين، وهي ظلال الألوان، بل روحها، لا شكلها المتعارف عليه، ودرجات الطين من البني الغامق مروراً بالصحراء، حتى وضوح الشمس، وبياضها في عين من يرصد قرصها الأصفر المعلق في السماء، وهي صوفية، تحمل من افترشوا سطح اللوحة الى ملكوت دواخلهم وتأخذهم عنوة أو خلسة لا فرق، إلى حوار صامت، يقول تواريخهم، أحزانهم، هزائمهم أو رقصهم، ذاك الملون الذي يقفز من عمل الى آخر في مساحات محددة، فهم رجال ونساء، ربيعيو الهوى كربلائيو المشاعر، أستدرِجُهم من صمتهم وأدلهم الى سطح اللوحة فرحين.
أما المرأة، فقد يبدو للوهلة الأولى أنها غائبة عن عملي، كيف لا وقد رصدها المشاهد بهيئتها العادية بشعرها وعيونها وجسدها. وهي بالنسبة لي حاضرة حتى في تضاريس الطين، فالوجوه التي أرسمها بلا جنس ولا ملامح، تختلط فيها الذكورة بالأنوثة، وتستحيل الى إنسان، إنسان مطلق.
كيف لي أن أرسم بلا حب والمرأة حاملة سري الأبدي، وجمالها مظلة وارفة الظلال، تؤثث ألواني وتحرس ذاكرتي، منذ طفلة الحارة قبل مائة عام وانتظار تلويحتها من النافدة.
المرأة بهذا المعنى، هي مرجعي الجمالي، ومنها أستعير هذه الشفافية وهذه القسوة في سطوحي، فهي نور ونار، تحملنا الى اليقين وتحملنا مرة اخرى الى هلاكنا، وغيابُها عن روح الرسام، يبعث فيه الصحراء القاحلة بلا خضرة أو دهشة.
اما صديقتي امنة , حارسة لوحتي , فهي من احتكم اليه , كلما دخلت في باب الحيرة , حول لون هنا او خط هناك , فعينها الحاضرة بامتياز , تندفع باتجاه الجمال فافرح او تصمت فتصلني الرسالة , يمان وفرات , ابنائي , تجذبهم لوحة الطبيعة , يمان الذي رسم صغيرا” , ثم سرقته الهندسة على ابواب الجامعة , وفرات اكثرهم جنونا” على الورق , وجنوحا” الى التجريد , فهو يقلدني فيما ارسم , ويتفوق علي في هروبه من سيطرة العقل .
بقي أن أقول: إنّ متعة الرسام خلال الفعل الابداعي هي أضعاف ما تحمله اللوحة لعين المشاهد، فبين يديه، تتصارع الألوان في طرفة عين يختفي بعضها ويظهر الأخر، فالقرار التشكيلي لا يمنح الرسام وقتاً عريضاً كي يفكر، بل يترك ليديه حرية التفكير، تتجاور الألوان وتخترقها الخطوط، يلهث الرسام كي يقول انفعالاته من خلالها دفعة واحدة، أو يستعير الرؤى من لقاء عابر بقطعة ظلال لونت حجراً ملقى على الأرض أو من ريشة بعثرها الهواء الطري أو خيطِ ضوءٍ مرّ على جدار، وطيورٍ حطت على السور، أو نهرِ موسيقى، شطرَ الكونَ ومضى.
أشهد أني قد استمتعت، فرهبة البياض قبل الرسم يعادلها فرح الاشكال وهي تنهض من فنائها الأزلي، إلى ملكوت العين وتصبح طاقة بصرية قائمة تملأ سطح اللوحة بنشيد الألوان ورقص الخطوط. ليتني أعيش عمراً أضافياً آخر لأكون فيه رساماً.