محمد الجالوس ينسج حكاية الجسد


حين عرفته في بدايات الألفية كانت أعماله تنبئ بقلق غامر يستحوذ على كيانه. لوحاته تحاور المادة والتراب وقشرة الأرض وتنحت فيها وجوهاً أشبه بالأقنعة. كانت الكتابة تستهوي محمد الجالوس (مواليد 1960 – الأردن) فتراه يشكل العالم في هندسة أشبه بالألواح السومرية. صار هذا الهوس يتحول تدريجيًا إلى ضرب من المعمار الهندسي الذي يجسد العالم في مربعات ونوافذ متخمة بالألوان المتدرجة. وكأن الفنان كان أشبه بكاهن يرسم رقيات سحرية تكشف له أسرار الحياة من خلال التشكيلات الرمزية التي تسائل الكينونة في تجلياتها العلامية والخطاطية.

في بحث متواصل، سيتابع الفنان أبحاثه ليكتشف أن العلامات لا تقول كل شيء وأن الخطوط والوجوه العلامية والأقنعة المتواترة والمنتشرة على رقعة اللوحة في نوافذ ومربعات صارت منهكة من ثقل المعنى. لقد صارت اللوحة ترزح تحت ثقل الدلالات الكاشفة والمعنى المصوغ في الذاكرة والذهن والروح. ولهذا السبب كان فضاؤها مكثفًا وممتلئًا، حتى بدأت المربعات تنمحي، أو بالأحرى تعيش ضربًا من الانخرام والغياب. وكأننا بالجالوس يفتحها على اندثارها المحتوم ويعلن من خلال ذلك عن أفول تجربة منحته كيانه، وتضمخ فيها بحرقة الأشكال والعلامات والخامات. فنحْت الوجود بالعلامات ينتهي في آخر المطاف لأن يصطبغ بالصمت. غدت تلك النوافذ أشبه بأحجار رصيف وصار انمحاؤها يصبغ النور على اللوحة. هكذا انبجست التحولات في تجربة الجالوس من ضرورة داخلية بحيث إن اللوحة انفتحت على الضوء والفراغ والصمت والتأمل من غير أن تتخلى عن بعض “الثوابت” التشكيلية والغرافية.

في تجربة الوجوه الأقنعة، كما في تجربة العلامات التجريدية، كان محمد الجالوس محمولاً على هوى التجريب، يستكشف خبايا لعبته وكائناته وعلاماته ورموزه ويعيد توليدها وصياغتها. غير أن النور والنسيان والمحو حين طرأت على اللوحة، كانت أشبه باختمار لفكرة الانتقال أو الانزياح باتجاه آفاق جديدة سوف تمنح للفنان عيانية أخرى ولأنفاسه الإبداعية إيقاعًا جديدًا. يقول بهذا الصدد: “لقد عشت كل هذه السنوات محاولًا، وباحثًا في الخط واللون، تسيطر علي فكرة الخامة وأشواق التجديد. أحيانًا كنت أقف على مسافة قريبة من تجارب آخرين، وأشكال هي ليست من ملك فنان بعينه، بل تأتي على حافة خطرة وملتبسة كانت تدفعني للانقلاب على منجزي من دون أسف أو خوف من التجريب. كنت أبحث عن لوحتي رغم قناعتي بأن الفن المعاصر لم يبق للفنان المعاصر غير مساحة ضيقة للابتكار أو التفرد، إذ ليس هناك من جديد أمام الفنان المعاصر غير روحه التي يثب بها ومخزونه البصري، أو خامة قد يستعيرها من بقايا الطبيعة كي يحمل بها مقترحه التشكيلي إلى عين المشاهد”.

في هذا “الانقلاب” على المكتسب التشكيلي، يعيش الفنان قلق السؤال، وينزلق بما يشبه القطيعة نحو مفاوز جديدة للإبداع التشكيلي، يسبر بها حدود التجربة السالفة وممكنات التعبيرات. حينها انفتحت اللوحة بشكل صارم على الفراغ والنور والأشكال المتداخلة، متخلية بشكل أشد صرامة عن التكرار والهندسية، متحررة من أسار الرمزي بكافة أشكاله، لتخرج من الذهنية إلى المحسوسية. يمكن اعتبار هذا المنعطف تحولاً كبيرًا في تجربة الجالوس، لا لكونه صار اختيارًا جماليًا وتشكيليًا مغايرًا، ولكن بالأساس لأنه فتح تجربته على الذاتي عوض الذهني وعلى الهوية المرئية في بعدها الوجودي، لا على الهوية الفكرية في بعدها التجريدي.

ينغمر الفنان في منحاه الجديد في استغوار الجسد في تحولاته من المرئي نحو اللامرئي. إنه جسد يفقد الوجه والتفاصيل كما ليغدو فضاءً مشرعًا على التحولات التي تربطه بالأرض وبالسماء. أجساد الجالوس أشبه بطرسٍ ترتسم عليه طلاسم جديدة. من ثم، ما إن تقع أعيننا على لوحاته التي ارتمى فيها في حضن الجسد، حتى نتأكد أن الفنان لا يمارس الانقلاب بقدر ما يحمل في ذاته ذاكرته التشكيلية كي يعبُر بها نحو فيافٍ جديدة باحثًا عن آثار الجسد أكثر من هيئته الواضحة. فالتربيعات لا تزال ثاوية في الخلفية، بحدة أقل، لكن بإلحاح، والعلامات صارت خطوطًا أشبه بالخربشات، تكاد تنبش في اللوحة وتترك عليها آثار أظافرها. أجساد الفنان كيانات هلامية تتشكل وفقًا لإيقاع المساحات، تتعالى أحيانًا حتى نفقد معها جسمانيتها، وتنصاغ أحيانًا أخرى حتى نكاد نلامس أنوثتها الخفية. الجسد لدى الجالوس أرض وذاكرة، هو الفلسطيني الأردني الذي ولد في المخيم، ويمارس النحت باستمرار في كيان تتجاور فيه اللغة والتشكيل.

تمنح هذه اللوحات الكثير من السؤال والأكثر من الحرقة. فالأسود بعتماته والأبيض بأنواره والأحمر بتدرجاته تلاوينه، تخرج الفنان من الألوان الداكنة التي كانت تشكل ذاكرته التشكيلية في السنوات السابقة لكي تزج به في السؤال الوجودي.

إلى أين يحملنا جسدنا وجسد الآخر؟

إننا هنا أمام رحلة في منافي الوجود، وكأن الجالوس يتقصى فكرة الموت ويقاربها في محسوسية الجسد المتشذر، اللامتحدد، ذلك الذي نعيشه كفكرة أيضًا، أي كصدى ممكن للحياة. وإذا كانت الأعمال السابقة للفنان تسبر قضايا الذاكرة والمعاناة والألم فإنها صارت الآن تحكي. فلقد كان الجالوس قصاصًا وكاتبًا قبل أن يترك ذلك للتفرغ للتشكيل. هذه الرغبة في السرد تأتيه من ذاكرة مفعمة بالتحولات والتغيرات التي عاينها، كما تأتيه من كيان مثخن بالمنفى والغربة والفوران. ونحن نحس هذه الانتفاضة اليوم أكثر من أي وقت مضى، خاصة حين تتحول التخاطيط والآثار التي ينحت بها أجساده إلى ما يشبه بيت عنكبوت، أو في حالات أخرى إلى نسيج يغلف الجسد ويضيف لضبابيته تلك الخيوط المتقطعة، التي هي ليست غير الخطوط المتقطعة للوجود. ذلك هو بالضبط ما يجعل الجسد لدى الجالوس جسدًا للكون والعالم، يتماهى مع الباطن والظاهر، وينْكتب بشكل أشبه بالنشيد المأساوي العاصف. هذا العنف الذي نلاحظه أكثر في التجربة الأخيرة للفنان ممهور بحكمة داخلية تعبر عن التأمل. فالجسد التأملي هو انعكاسي أيضًا لأنه يتمرْأى في مرايا الوجود المنفلت من بين أنامل الفنان. لا يمسك به إلا كي يندلق على اللوحة في حركة منظمة تعلن على أن الفنان يسعى دومًا إلى الإمساك بخيوط حكايته وذاكرته ووجوده.

,

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *