الرسام الأردني مارس لعبة الرسم من أجل أن يخترق المشهد الثقافي بشخصية الرسام التي أدرك أنها تتطابق مع إرادته الداخلية. الرسّام هو مَن يمثله حقاً وليس الكاتب
لندن – قُدّر له أن يكون رساما بالرغم من أنه فعل أحيانا ما لا ينسجم مع ذلك القدر.
مرة حين درس إدارة الأعمال ومرة أخرى حين استجاب لموهبته في الكتابة فكتب النقد الفني والقصة القصيرة لسنوات وكان موهوبا بما يكفي للاستمرار في تلك الطريق التي اكتشف أنها لا تقود إليه.
صنيع تحولاته الأسلوبية
“مقامات جسد” وهو عنوان معرضه الأخير في قاعة نبض بعمان. هو خلاصة لخمس وثلاثين سنة قضاها رساما محترفا، لا يمر عليه يوم من غير أن تمسك يده بالفرشاة ليستحضر كائناته من المقيمة في خفائها لتملأ سطوح لوحاته ببهجتها.
رسام متعوي، لا يضع لمسة على مكان ما من لوحته إلا بعد أن يسمع وقعها في قلبه قبل أن تلمع عيناه بإيقاعها. أشكاله لا تكتسب عاطفتها من فعل الرسم بل تحضر مكللة بالعاطفة.
محترفه في عمان، المدينة التي رسمها بشغف العاشق، هو الآخر بيت أول، بالرغم من أنه ربّ أسرة مثالي يحرص على تأثيث حياته الأسرية بدفء مشاعره وحنانه الذي يغمر به أصدقاءه من جهة وفائه.
قضيته الرسم وهو الفلسطيني الذي يدرك ما يعنيه غياب الجمال من قسوة. وهو ما دفعه إلى أن يتحرر من الوصفات الجاهزة التي تقيده بالماضي. فكرته عما سيفعله تشده بعيدا عما فعله في أوقات سابقة.
ربح نفسه حين اختار الرسم
منذ ربع قرن، وهو عمر صداقتنا وهو يعمل بدأب على تطوير أدواته التقنية وقبلها طريقته في التفكير في الرسم، من غير أن يخشى الانزلاق خارج أسلوبه الشخصي الذي كان يتشكل بليونة وانسيابية من غير أن يتخذ طابعا صلبا. محمد الجالوس هو صانع تحولاته الأسلوبية وصنيعها.
ولد الرسام الأردني-الفلسطيني محمد الجالوس عام 1960 في مخيم الوحدات بعمان. في تلك البيئة كان التعليم يتخذ طابع النضال من أجل تأكيد الوجود. وهي الفكرة التي غذّت الجالوس طفلا بقوة الإرادة والرغبة في التميز. في سن مبكّرة اكتشف الرسم ومن خلاله العالم مرسوما، غير أنه حين وصل إلى السن التي تؤهله لدخول الجامعة، قرر أن يدرس إدارة الأعمال من غير أن يغمض عينيه عن حلمه في دراسة الرسم، وهو ما دفعه إلى أن يكون طالبا مزدوجا. وهو ما كرّس لديه فكرة الإرادة الحية من خلال مقاومة الواقع.
كان يدرس إدارة الأعمال في الجامعة والرسم في معهد الفنون الجميلة في الوقت نفسه. كان لديه صباح ومساء لا يتشابهان. حنوّ الجالوس على نفسه وعلى موهبته دفعه إلى الكتابة. “ذاكرة رصيف” وهو كتابه القصصي الأول أهّله للفوز بجائزة رابطة الكتاب الأردنيين لأدب الشباب وحين انتمى إلى تلك الرابطة وهو في سن التاسعة عشرة كان أصغر أعضائها.
في تلك المرحلة أغوته الكتابة فكان ينشر مقالاته وقصصه في صحيفتي “صوت الشعب” و”الرأي”. غير أن فكرة أن يكون رساما كانت تعذبه. بالنسبة إليه وهو ما أكدته تجربته في المراحل اللاحقة يعني حياة كاملة.
عام 1987 اتخذ القرار الذي صنع منه رساما. لقد قرر أن يهجر الكتابة مستسلما بكل قواه الروحية وطاقة جسده للرسم. أخلص الجالوس إلى قراره بتحدّ واضح لموهبته في الكتابة فكان يكتب من غير أن ينشر.
مارس تلك اللعبة من أجل أن يخترق المشهد الثقافي بشخصية الرسام التي أدرك أنها تتطابق مع إرادته الداخلية. الرسّام هو مَن يمثله حقاً وليس الكاتب. وإذا ما كان الجالوس قد ربح الرهان ثقافيا، حين صار الجميع يشير إليه باعتباره رساما فإنه في الوقت نفسه كان قد ربح نفسه.
حين التقيت الجالوس أول مرة عام 1992 (حدث ذلك في تونس، في بلدة صغيرة اسمها المحرس) كان رسّاما خالصا.
بالرغم من أنه انتخب ذات سنة رئيسا لرابطة التشكيليين الأردنيين فإن شغفه بالفن كان يقف بينه وبين الاستغراق في عمل إداري. مارس تدريس الرسم في المدارس في مرحلة من حياته غير أن ذلك لم يمنعه من الذهاب يوميا إلى مرسمه، هناك حيث كانت حياة غاصة بالجمال تنتظره.
الكائن الذي يؤمن بالحدس
ربما تؤهلني صداقتنا للحديث عنه بطريقة مختلفة قد تكون محرجة له. فالجالوس الذي عرفته يقدّم الفن على الحياة. يلهمه الجمال الذي يستدرجه إلى لوحاته أكثر مما يغريه الجمال في الواقع. هو كائن خُلق من أجل الرسم. هناك يقيم كل شيء. كل شيء يعرفه وكل شيء لا يعرفه.
الرسم هو خلاصته ويومياته وإيقاع خطواته وفكرته عن العالم وقيامته. ما من شيء له قيمة يقع خارج الرسم. الرجل الذي أفخر بصداقته كان يفكر بعينيه اللتين خلقتا لامعتين فكنت أظنه يبكي حين يحتضنني.
لا يرسم الجالوس لأنه يريد أن يرسم وهو رسام محترف، بل يرسم مدفوعا بقوة الرسم التي لا يملك الرسام سوى أن يخضع لها. يمكنه أن يقنعنا أن ما يظهر من أنوثة في لوحاته هو أكبر مما نعثر عليه من أنوثة في النساء. وهو ما يؤكد أن هذا الفنان الذي وجد في الرسم خلاصه الوجودي قد عثر في الرسم على ضالته الجمالية التي لم يعثر عليها في الحياة. صار الرسم بالنسبة إليه بمثابة حياة بديلة. لهذا يمكنني القول إن الجالوس كان محظوظا حين أهداه القدر زوجة قادرة على أن تتعامل مع الحياة بمقاييس واقعية. لولاها لتسامى الجالوس عابرا الحدود التي تفصل بينه وبين عالم كائناته غير المرئي. لكان هو الآخر كائنا لا يُرى إلا من خلال الحدس.
ألا يكفي أن يكون الجالوس هو الرسام
في حقيقة دوره التاريخي فإن الجالوس لعب دورا مهما في انفتاح الرسم الأردني على أساليب الرسم في العالم العربي. هناك رسامون أردنيون سبقوه كانوا قد تعلّموا الرسم في أوروبا، غير أن صلتهم بالرسم العربي كانت مقطوعة. كان الجالوس رائدا في الانفتاح على ما يجري في العالم العربي من تحوّلات فنية. ربما لعب مزاجه السياسي دورا مهما في ذلك. ميول الجالوس القومية أعانته على الخروج من ثيابه الأردنية. كانت رسومه لمشاهد مستعارة من الواقع الأردني نوعا من الذكرى التي رغب في توثيقها غنائيا، غير أن عينه الداخلية كانت تقع على الرسم العربي في أعلى مراحل نضوجه. لقد نجح الجالوس في أن يكون رساما عربيا، غير أنه في حقيقة ما فعله كان يخطط أن يكون رساما من غير أن تلحق به هوية بعيـنها. ألا يكفي أن يـكون الرسـام جـالوسا؟
في “مقامات جسد” وهو عنوان معرضه الأخير سيكون علينا أن نقف أمام الانوثة باعتبارها وطنا. لغة الجالوس يمكنها أن تجرحنا وتشفينا في الوقت نفسه.
فنساؤه، وهنّ اختراع شخصي، ينتمين إلى الرسم أكثر من انتمائهن إلى الحياة. يضعهن الرسام في المكان الذي يكون فيه الحلم بهن نوعا من التفكير في الحياة. يخترع الرسام نساء حالمات. حين يراهن المرء يرى من خلالهن صورته التي تحلم في نساء أخريات.
مفهوم المرأة المطلقة هو ما يستجيب لفكرة الرسم الخالص التي تبناها الجالوس. ما لم يقله الجسد مباشرة تقوله الرسوم وهي تعيد اختراع ذلك الجسد. الجالوس يكتب يومياته من خلال الجسد وهو لا يعرف سوى أن يرسمه كما تخيله.