شجن مجرَّد


أمجدناصر

يمكن لكاتب أو رسام أن يعود الى ‘ثيمة’ سابقة، ولكن، فيالأثناء، يحدث التغير الذي هو طبيعة الأمور، فيستحيل، والحال، استئناف البدء. العودة الى موضوع سابق ممكنة، ولكنها ليست عودة الى الأصل لأننا، حسب هيرقليطس، لانسبح في النهر الواحد مرتين.

السؤال هو: لِمَ يعود كاتب أو رسام إلى موضوعسابق؟
يتعلق الأمر، على الأرجح، بشعور يراود المبدع أنه لم يعط الموضوع حقه، أوتتكشف له، لاحقاً، جوانب في ذلك الموضوع غابت أثناء العمل عليه. هناك، أيضا، الرغبةفي الاشباع او الاستنفاد التام لموضوع معين وطي صفحته نهائيا.

لعل هذا ما حدثفي المعرض الأخير للفنان التشكيلي الأردني محمد الجالوس ‘مجرد شجن’.
عنوانالمعرض يشي، إلى حد ما، بأسباب تلك العودة الى وجوه راودت الجالوس في مرحلة سابقة،وها هو يعود اليها مرة أخرى. فالشجن قد يعني، لغوياً، الحزن الدفين، وقد يأتي بمعنىهوى النفس، وبالإمكان اعتباره نوعاً من التذكّر وقد يأتي بما يفيد الحبس، فيقال ‘ماشجنك عنا’، أي ما حبسك عنا. قد لا يكون الجالوس قصد هذه المعاني اللغوية. فهو، هنا،يقدم أعمالا بصرية (لوحات) وليس أعمالاً أدبية مادتها اللغة، مع أن للجالوس ممارسةأدبية سابقة (مجموعة قصصية)، غير أن لتساؤلي اللغوي أمام معرض تشكيلي، يجنح الىتجريد الملموس، وجاهته حسب ظني. فإذا اعتبرنا الشجن ‘هوى النفس’ ففي لوحات الجالوسما يفيد ذلك، أما إذا اعتبرنا الشجن ‘تذكّراً’ فالسؤال اللغوي يكتسب مشروعية أكبر،ولكن معنى ‘الحبس’ هو الذي يتراءى لنا، بقوة، ونحن نطوف في لوحات المعرض الجديد. إنه المربع الذي يكاد أن يكون بصمة المعرض الموحدة. المربع الذي يطبق على وجوهقادمة من الذاكرة أو من أثر مرور الانسان في الأمكنة.


***


الوجه هوية بشرية.

من يرغبون في تغيير هوياتهم لا يعمدون الى تغيير اسمائهم بل وجوههم، فالاسملاحق على الوجه. الوجه أولا ثم الاسم. فالوجوه هي التي تراودنا، على الأغلب، وليسالأسماء.
الوجوه هي التي نحبها، أو نكرهها، نستبشر بها، أو نتشاءم منها قبل أننعرف الاسماء.
نرى في رسوم الكهوف، المعابد، العملات، أروقة الممالك البائدة،وجوهاً أكثر مما نقرأ أسماء.
لا يزال هذا التقليد يتلكأ، حتى يومنا هذا، فيالرسم، فمنذ زمن طويل غادر الرسم الطبيعة.
صار الانسان مادة الفنون التشكيلية،والانسان وجه قبل أن يكون اسماً.


***

ليس هناك ترتيب نظامي في لوحات معرضالجالوس الأخير، إذ لا يجري الانتقال من المربع الصارم والوجه المغلق الى تخلخلالمربع وانفراج الوجه وامّحاء ملامحه. يمكن أن نكون مرة حيال هذا ومرة أخرى حيالذاك، بل يمكن لوجه أن ينفرد في اللوحة ويتسيد، وحده، فضاءها. كأن هذه الوجوه التيتقاوم مربعات عزلتها تأبى الحشر والاندثار التام. فعلى من يرى اللوحات الموزعة فيالغاليري، على مربع ناقص، أن يقوم بعملية الترتيب من الأقدم الى الأحدث، أو منصرامة المربع الى تخلخله، ومن وضوح الوجه (النسبي) إلى تبدده. 

لو أن الجالوسرتّب لوحات معرضه انطلاقاً من مربّع محكم ووجه ذي ملامح واضحة انتهاء بزوال المربع،تقريباً، وتحول الوجه الى ما يشبه الوشم الحائل لكنا أمام سردية لونية متصلة. لكنه،لسبب ما، لم يفعل ذلك فصار على المشاهد أن يصنع ترتيبه الخاص به وينشىء سرديتهاللونية.

على مشاهد المعرض أن يقرأ تواريخ اللوحات ليعرف أنه انتقل، تقريباً،من مربَّع محكم الإغلاق ووجه محبوس فيه الى لوحات يتراجع فيها هذا الإجراء السرديالتشكيلي حتى يصل الى الفضاء المفتوح، حيث يزول المربع ويمحى الوجه أو يصبح أثراًبعد عين.

كذلك ينتقل الجالوس من الألوان الداكنة (الترابي، البنيّ) إلى الألوانالفاتحة التي تكاد أن تلامس البياض.
ليس على اللوحة، حسب ظني، أن تكون منصةلاطلاق الرسائل الاجتماعية او النفسية. رسالة اللوحة تكمن، على الأرجح، في مادتهاوتكوينها، ولكن، مع ذلك، بمقدورنا أن نستنبط رسالة ما. بمقدورنا أن نرى الوجهالمحبوس في مربّع وقد تحرر من حبسه وانطلق في الفضاء العاري.
هذه قراءتي.
بلربما رغبتي

,

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *