تحت عنوان «شجن مجرّد»، أقام الفنّان التّشكيلي محمد الجالوس معرضه الأخير في صالة رؤى للفنون في مدينة عمّان. ضمّ المعرض ستّين عملاً توزّعت بين رسم الوجوه وبين رسم مشاهد تجريدية مستلّة من روح الطبيعة. وجميع هذه الأعمال منفّذة بخامة الطّين، تلك الخامة التي كان قد عثر عليها الفنّان قبل عشرين سنة.
في هذا المعرض يقود الجالوس الطين نحو مغامرة جديدة، ويفلح في القبض على أسراره الدّفينة. إنّه يكمن له ويراوغه ليشفّ ويرتعش، ليهذي ويتجلل بالحمّى، ويقف آخر الأمر وقفته الحائرة، وقد تجسّد في رموز وإشارات لا تقول بقدر ما تومئ وتشير. ربّما هي غربة الطين في صيرورته وتشكّله في فضاء اللوحة كمعادل موضوعي لغربة الإنسان في أرض مبذورة بالقلق. تلك الغربة تتبدّى علاماتها في الوجوه التي رسمها الفنان، حيث القسوة والنّظرات المطفأة، والإطار المحكم الذي يخنق أنفاسها. جمهرة من الوجوه اقتحمت الذاكرة وجاءت لتقف في تلك المربّعات الصغيرة وتنهمر بالصّراخ المكبوت. لكأنّها تبحث عن خلاص ما وتسأل عن مصيرها. في هذا المجال ينبغي ملاحظة الصليب الناقص الذي تشترك فيه كلّ الوجوه على اختلافها، وهو المتأتّي من تعامد خطّ العينين مع خطّ الأنف. مثل هذا الصّليب نسج الوجوه في سيرة الألم الجمعيّة، وحرّرها من أقنعتها حتى لتبدو على هذه الصّورة من القنوط وغياب اليقين. ملاحظة أخرى يمكن الإشارة إليها تتعلّق بمقدار الزّهد البالغ في رسم هذه الوجوه على صعيد الخطوط والألوان. مثل هذه الحالة جعلت الوجوه تتعدّد، وتدخل حيّز التّأويل من قِبَل المشاهد الذي بات يشارك في تأليفها. لقد أصبحت الوجوه بمثابة مرايا ترتجف على سطوحها صور الأعماق. بكلام آخر لقد افترست تلك الوجوه أعين المشاهدين وقادتهم باتّجاه قلقها المخبوء. عن هذه الوجوه يقول الجالوس: «هي وجوه لأناس أعرفهم، وأنا واحد منهم. تخرج إلى السّطح بطاقة تعبيرية سيطرت على لوحة الثمانينيات والتّسعينيات، وبدأت منذ سنوات قليلة تفقد بعدها التّعبيري، بل وملامحها لتتحوّل إلى منحوتة حجريّة ضاربة في الزّمن إشارةً أو رمزاً لأرواح من ظلّوا أو غادروا»، ويضيف الجالوس: «وهي وجوه أصبحت مغمضة العينين، تبحث في ذاتها عن المطلق بعد أن استنزفتْ أماكنها، وربّما أحلامها، وغدت تقول ما في دواخلها أكثر من هيئتها وشكلها المرئي».
في القسم الثّاني من اللوحات يذهب الجالوس في رحلة بحث واستقصاء في أعماق تلك الأمّ الكبرى – الأرض، في محاولة منه للعثور على محطّات راحة وهدوء تنقذه من حالة القسوة التي تستبدّ به. ربّما هي رحلة العودة إلى الطّفولة، والبحث عن ذلك الرحم التّرابيّ الدّافئ. ولذلك فإنّ المتأمّل في هذه الأعمال سيكتشف باستمرار تلك الطّرق والتّعرّجات التي تخترق أرض اللوحات وتأخذه باتّجاه كهف ما أو بئر. في أعمال أخرى تبرز تلك الأقواس العتيقة التي تستقبل المشاهد، والجدران المطرّزة بالخربشات. هنا يشفّ الطين ويتحوّل إلى مناديل ناعمة تغطّي بغلالتها الأشياء. يعزّز تلك الشّفافية عنصر الإضاءة الذي أبدع الفنان في رسمه. أحياناً تخفّ الطبيعة في اللوحة وتطير وتتحوّل بفعل ذلك إلى طقس غيمي ومهرجان من الضوء. عن تحوّلات الطين تلك يقول الجالوس: « أنا مدين لطفولتي. ومرجعيّتي في رسم السّطح الطّينيّ ليس الفنّ المعاصر، بل جدار بيتي العتيق. هناك في المخيّم حيث الصِّبيَة يكتبون أسماء حبيباتهم، ويرسمون صورة لفلسطين، ويهجون الحرب بأصابعهم الطّرية. فهذه الجدران ما زالت في الذّاكرة داهمت لوحتي منذ أكثر من عقدين من الزّمن. وكنت خلال هذه الرّحلة أميناً في نقلها، ففيها كنزي الشّخصي، ومرجعي الذي تحدّث عنه هيغل ذات يوم وقال: هذه الطبيعة مملوءة بالتّجريد الذي يعجز عنه أعتى الفنّانين المعاصرين».
انه شجن مجرّد إذاً. ارتجافات بعيدة من سيرة الجسد الذي يتهدّم، ويخفق مثل قميص ممزّق في الريح. التفاتة جسورة إلى ذلك الطفل الذي كنّاه ذات يوم، وظلّ يتمرّد علينا فلم يكبر.
يُذكَر أنّ الفنان محمد الجالوس يعتبر واحداً من أهمّ الأسماء التّشكيلية الأردنية التي ظهرت في النّصف الثاني من السّبعينات، وقد أقام عشرات المعارض داخل وخارج الأردن، كما أنّه نال عدداً من الجوائز كان آخرها الجائزة الأولى لبينالي طهران للفنّ المعاصر في العالم الإسلامي عام 2002.