رسام المتعة الخالصة


محمد الجالوس

رسام المتعة الخالصة

فاروق يوسف

يقضي محمد الجلوس جل وقته وهو يمحو ما رسمه في أوقات سابقة. يهدم أشكالا تخيلها، من اجل أن يتسلل إلى أعماقها التي لا تزال لينة. شيء ما ناقص يجذبه إلى تلك الأعماق. لا تفارق عينه البقعة التي يشير إليها ذلك الشيء الناقص. أراقبه وهو يرتجل انشاءات مضادة لما انتهى إليه في أوقات سابقة. ‘أنس المربع’ يقول كما لو أنه قرأ أفكاري. ‘لا أفكر بجوزيف البرز ومربعاته التي لا تقول شيئا بعينه’ لم أجب. غالبا ما يحيلنا المربع إلى معان متقشفة.

 الجالوس يهب مربعاته قوة التعبير الإنساني المتأني، كثافة اللحظة التي تضنيه بألغازها. لم يكن هذا الرسام يوما تقليليا. متعة الرسم وحدها تجعله راغبا في الاسراف المترف. هذيانات متلاحقة، يشتبك بعضها بالبعض الآخر تدفع به إلى ارتياد مناطق لم يتعرف عليها من قبل.

 أنظر من نافذة المرسم الواقع في الطابق الخامس فأرى تلك الرسوم تتراكم تحت الشمس: بيوت عمان وهي تتسلق الجبال، مخلفة أثرا من ظلالها. النغم ذاته. هي محاولة للوصف إذاً، يا لمكر الرسم وهو يتسلى. يخذلني التبسيط هذه المرة فاعتذر من العبارة صامتا. ينقص العالم أو يزيد. في الرسم أو من خلاله. في الواقع أو في ما بعده. حاولت ان اقيم صلة ما بين الرسم الذي يزيح المرئي والواقع الذي يضفي على المرئي نوعا من الصلابة. خارج الواقع يمكننا تخيل حياة محتملة. خارج الرسم يكون الجمال ناقصا.

 منذ سنوات كانت لدى الجالوس فكرة مختلفة عن المربع. لم يكن ذلك الاختراع البشري سوى ذريعة طوعية للرسم. المادة التي تقترح شكلا مجانيا لعالم غير مرئي. تسعى اليد إلى تلمس الطريق في اتجاه اكرة باب تقف في مكان ما من العتمة. ولأن خيال اليد لا يخدع  فقد كان الرسام يعثر على متعته في لقى ظلت غامضة. جمال حائر ومحير، سعادة لا جنس لها وتأويلات مرحة لعالم في طريقه إلى أن يتشكل. أركز النظر، لا من أجل أن أقبض على التفاصيل، بل من أجل أن أوقف الدوار الذي أشعر به. تلك الشبكة اللانهائية من الخلايا التي لا تتكرر بقدر ما تحاول أن تنزع عن نفسها أية شبهة شبه انما هي متاهة، يدخل إليها المرء بشعور عميق بالفقدان. أعرف أن الرسام لا يرى ما أراه والعكس صحيح أيضا وبالقوة نفسها. من الداخل يأخذ النظر هيأة مستسلمة. التكيف نوع من الكدح كما لو أن المرء يركب اعصارا.

من الخارج تبدو المشاهد أكثر تعقيدا. صراع بين الصورة وفكرتها يجعل من المكانين (الخارج والداخل) قطبي خلاف متشعب. حين يقول لي ‘انس المربع’ فلأن المربع لم يعد موجودا إلا بالنسبة للعين التي تبحث عن معنى. اما عين الرسام فانها لا ترى. في لحظة بعينها من لحظات الرسم تنعدم قوة البصر لتبدأ قوة البصيرة في العمل. يتخيل الرسام الشكل ولا يراه. بل أن الأشكال تتداخل: ما رسُم منها وما لم يُرسم. في واحدة من اللوحات خُيل إلي أن الجالوس صار يقبض على فتات البوم عائلي. أشباح تعود إلى أزمنة مختلفة لا يعنيها أن تكون موجودة إلا في سياق شقاء جماعي يقترحه الرسام على ذاكرته. لن يكون مجديا النظر بتفحص في كل مربع. لن يرى المرء الشيء الذي يرغب في رؤيته. فالحكاية بالنسبة للرسام ليست هنا. هناك سياق تعبيري لا يزال في إمكانه أن يكون مرجعا لتأليف دليل هامشي لمتحف عائلي. غير أن يد الرسام، وهي الأكثر دراية بعزلتها، تفكر بطريقة مختلفة. تذهب تلك اليد مباشرة إلى الثغرة التي تعينها على التسلل إلى الداخل.

 ما بين يوم وآخر كانت الرسوم تتغير. لم يقل لي يوما أن لوحة ما قد اكتملت. يعرض علي لوحاته الجديدة ويجلس إلى جانبي مرتبكا مثل عاشق مذنب. يُشعرني بالقلق. لا يمكنني أن أقترح عليه شيئا. هناك صفة مسلية في الجالوس: يجتمع فيه الشيء ونقيضه، لذلك تجده واقفا بينهما. فهو على سبيل المثال لا يصدق كل ما يقوم به ولا يكذب كل ما يقوله الآخرون عن رسومه. حين تعرفت عليه عام 1992 في تونس كان قد دخل لتوه إلى مناطق جمالية تعرف فيها إلى صورته الشخصية. لنقل مجازا أنه صار يرسم بأسلوب يشبهه ولا يشبه أيا من الرسامين الذين أعُجب بهم. كان ولعه بالابيض على أشده. يومها كشف عن موهبة خارقة في استخراج الأشكال من اللون الواحد. كان بريئا وهو يسعى إلى ترويج مهاراته التلقائية ولم يخف عن الآخرين شيئا من أسرار صنعته.

لم يكن يعتبر الرسم نوعا من المكيدة، فلم يكن حذرا من امكانية أن يتلصص الآخرون على تقنياته في الرسم. أعانته النزعة التجريدية على اختبار حواسه المباشرة. غزارته في الانتاج دفعت به إلى التماهي مع مسافة لا تقع في متناول يديه، مسافة متخيلة من واقع لم يعشه إلا حلميا. وهو ما جعله يقوم بواحدة من أجمل مغامراته : رسم أزقة مدن منسية. يبحث التجريدي في الواقع المتخيل عما يعينه على نسيان كثافة المادة. ‘ماذا يحدث لو سالت المادة وأنكسر المربع؟’ أسأله فيلتفت إلي وأراه يفكر بعيني. أعرف أن سؤالي لن يتمكن من خياله. صحيح أن الوجوه التي تسكن المربعات قد اختفت منذ زمن طويل، غير أن ذلك الغياب لم يكن إلا جزء من السيرة الذاتية. سيرة الشخص الذي يتماهى مع رمزية موقفه من الماضي. لقد امتزجت تقنيات الذكريات بمادة الرسم فصار الرسام يقف في كل محاولة أمام اختبار جديد لبلاغته. ولأن الجالوس يمهر أصباغه بتوقيعه الروحي فقد كان يجد في ذلك الاختبار تمرينا عظيما يعينه على تفجير لغته الجمالية. ‘سأكون قريبا منهم’ يقول لي وهو يلتفت إلى النافذة. كان الزجاج يشف عن بيوت عمان التي تتسلق الجبل. حينها تبدو اللوحات غير مكتملة. ‘ربما يكمل بعضها البعض الآخر لو صُفت معا’ يبدو غير مرتاح. بالنسبة له فان فكرتي تمحو شيئا من كرامة اللوحة. قيمة ما ترسم هي غير قيمة ما ترى. هناك فكر اقتصادي مختلف. بطريقة مختلفة يمكن أن تكمل اللوحات، بعضها البعض الآخر. ‘يمكنها أن تتدافع كالنغمات، أن تتراسل فيما بينها بجمل مشفرة مثل المراهقات، غير أن كل واحدة منها هي عالم منفصل’ ولكن الجالوس لا يكف عن الايحاء بعتق العالم الذي يسعى إلى اعادة انشائه خياليا. مع ضربات حمراء لا تُرى بيسر تغير كل شيء.

 كان هيامه في ذروته. صارت الرسوم تصدر نغما مختلفا. ‘هل رأيت؟ انبثق كل شيء من الداخل’ يرى ما لا أراه. غير أن الجرح الذي رأيته حطم كل ما علق بذاكرتي من مشاهد خارجية. لقد انفصلت اللوحة عن المحيط. شيء ما يتعلق بالرسم صار يلح علي. فجأة شعرت أن الرسم انفصل عن كل فكرة بصرية سابقة. سيكون النظر من خلال النافذة فعل هروب ليس إلا. ‘اختبر بصيرتك’ قلت لنفسي. الخلاص الذي يتجسد مع الرسم، من خلاله، لا يؤثث مكانا بعينه بذرائع وجوده. يذهب صمته إلى لحظة تتعادل فيها الموعظة مع اللذة. يبشر الرسم بما لا نتوقعه: خبرة العيش في عالم مجاور. 

يفكر محمد الجالوس في معنى الرسم لا في معنى ما يرسم. بالنسبة له فان الرسم واقعةً هو ما يجب أن يحظى بالاهتمام كله. وكما أرى فان الرسام هنا يخلص إلى فكرته عن وجوده كائنا مستقلا. ولأن ذلك الكائن موجود بقوة الرسم فقد حرص الجالوس على أن يبقيه زمنا طويلا في منأى عن أي تاثير اجتماعي. الرسام هو شخص آخر. موقف مزدوج فرضه واقع اجتماعي لا يعترف بالرسم وسيلة للخلاص الشخصي.

 لقد جرب الجالوس في البدء موهبته في الكتابة فكتب القصص والمقالات، غير أنه أدرك مبكرا أن الهامه يقيم في مكان آخر. مكان تحضر فيه الصور لا لتسلم نفسها للغة بل لتكتفي بذاتها. صفته رساما تأكدت في سن مبكرة إذاً. وإذا ما كان الأدب قد ترك تأثيرا واضحا على بداياته في الرسم، فان ذلك التأثير سرعان ما خفت، ليختفي في المرحلة التي صارت رسومه فيها مرآة لرغبته في أن يكون مستقلا عن كل ماعداه. وهي رغبة صار الجالوس يعلي من شأنها في كل لحظة رسم. ومن تسنت له فرصة التماس المعرفي بتفاصيل المشهد الفني في الاردن لابد أن يدرك أن تجربة هذا الرسام هي مجموعة خبراته التقنية والفكرية المتراكمة، وهي خبرات مستلهمة من سعي شخصي، كان يهدف بالدرجة الاساس الى تجريد الرسم من طابعه العمومي.

 الجالوس ورسومه في مكان فيما الرسم في الاردن في مكان آخر. لا يشبه أحدا من الرسامين ولا يشبهه أحد منهم. حكايته مع الرسم هي ذاتها حكايته مع ذاته المتمردة والذاهبة الى تشظيها بين خيارات متعددة. لم يتخذ من الرسم وسيلة للوصف أو الشرح أو المباهاة، كان لديه دائما ما يقوله مختلفا، لكن بطريقة حساسة لا تستني الجمال من توق التحرر من أيقونيته. وكما يبدو لي فان الرسام لم يسع الى ترويض انفعاله المتحرر من كل شرط بقدر ما سعى إلى تحويل ذلك الانفعال إلى سلوك يومي مباشر. اسلوب عيش داخل الرسم حول الرسام الى ذلك  الاستثناء الذي صاره. نزعته الجمالية المتشددة جعلته لا ينصت إلا إلى الأصوات التي تشكل جزء من ايقاع لا يزال غامضا، ولم يتخذ بعد هيأته التي تمكن البصر من الامساك به. الوفاء لتلك النزعة تجسد في امتزاج يد الرسام بمادته. حيث كان الرسم يصدر عن فعل الرسم لذاته. جماليات تنعم بحيويتها التي هي الملهمة في الوقت عينه. لقد ارتبط الاسلوب الشخصي (وهو تعبير مجازي ليس إلا) لدى الجلوس بمستوى تحرره من ذاته الاجتماعية والثقافية وامتزاجه بما يتطلبه فعل الرسم من تخل عن العالم الخارجي. يدخل الرسام الى اللوحة البيضاء ليقيم هناك. ينغمس في اضطراب الاصباغ لينسى ما يمكن أن تتركه تلك الاصباغ من ايحاءات رمزية.

كان في الوقت الذي تعرفتُ فيه عليه أشبه بمن يعوم وسط الأمواج، لا يرى من سطح الماء سوى حركة ارتدادية، تبدأ من جسده لتعود في النهاية إليه كما لو أنه لم يعشها من قبل. نوع من دورة حياة تسنى للجالوس أن يحتكم أثناءها لخبرات كانت تتراكم تلقائيا، من غير أن يلجأ إلى تهذيبها، ذلك لأنه لم يكن يشعر بالحاجة إلى أن يعقلن ما يفعله. كانت رسومه تتشكل فيما يكون غائبا عنها. ولا أجد مبالغة في القول أن تلك الاختبارات بكل شراستها ومجانيتها وعنفها وغلوها وعاطفيتها وانسيابيتها قد شكلت قاعدة اساسية لنمو تجربة الرسام فيما بعد. يومها عجن الجالوس روحه بمواد الرسم. تعلمت يده الدرس الأهم في حياة كل رسام حقيقي: أن تستقل عن غوايات البصر.

‘دع المربع يتنفس’ يبتسم. شيء عظيم من حزنه ينتقل إلي. يكتب لي ‘لا بأس أن تعرج على طفولتي في مخيم الوحدات’ الطفل الذي لم يكنه يوما لا يزال يسليه بألعابه التي تظل أسيرة فضاء مقيد. كيف يمكنه أن يفر من المبنى الذي لا معنى من دونه؟ يأسر لغة محلقة. يقول لي: ‘ألا ترى تلك الازاحات؟’ فضاء من تحت. الأمور تجري بالمقلوب. هناك من يمد يده إلى اللوحة. أتخيل ذلك الطفل وقد حضر مستأنسا بحنان الرسام ليعبث تاركا أثرا من يده على سطح اللوحة. يمد الجالوس يده بحذر. مأخوذا بسحر لحظة ودَ لو أنها كانت لحظته وهو ينظر إلى لوحته، ليعترف في ما بعد أن روحا سكنتها. في كل جزء من اللوحة هناك حكاية. ‘هل مرت بك كل تلك الحكايات؟’ ‘تكاد تلتهمني’ لا شيء منها يبقى. غير أن الصمت وقد حل لم يكن هو الضالة، لذلك تتداعى أبنيته بيسر. هناك نوع من الجمال ارضائي يسعى الرسام إلى التخلص منه. شيء زائد كالمعنى. يمشي الرسام مضطرا إلى طفولته. حمولة جمال متشنج. الذكريات يمكن اختزالها. ‘الرسم كفيل بذلك’ انسانية محمد الجالوس تتجلى في أجمل صورها في رغبته في انصاف ذواته المتشظية بين أزمنة لم يعد في إمكانه أن يراها متسلسلة. يقضي نصف نهاره في المرسم. ينتقل ما بين بقع منيرة وأخرى معتمة. يرى ويُري ويشعر أنه يُرى. هناك من يتابع خطواته. لذلك يلتفت من غير أن يعرف معنى لالتفاتته تلك. يسكنه هاجس أنه لن يكون وحيدا أبدا. الرسم في جزء من معناه هو تحية لذلك القرين الذي لا يفارقه. عدد من كائناته يحمل شبهة الغموض ذاتها. كائنات بلا هوية، مقتلعة وفائضة وغير راغبة في التسمية هي نتاج غربة مزدوجة، يعيشها الفرد باعتباره جمعا. ربما لأني أعرف أن الرسم بالنسبة لصديقي يقع خارج كل رغبة في الفهم فقد امتنعتُ عن سؤاله عن أشياء كثيرة. ربما لأني لا أفهم من الرسم إلا ما يتركه في روحي من نغمات نشيد كوني. كانت الوجوه المبهمة تزعجني، أما وقد اختفت تلك الوجوه فان المتاهة تبدو مُسرة. قد يُحزن الرسام شعور أناني من هذا النوع. غير أن ما فعله طائعا يكاد يتطابق مع حساسيتي.

 أعتقد أن النسيان ضرورة للرسم. سوف نعود حفاة إلى الماضي. عراة مثلما كنا فيه تماما. يزيح الجالوس عن سطح لوحته كل اوهام الماضي. يعيد ذلك السطح إلى الحاضر. في الخمسين من عمره (ولد عام 1960) لا يزال يشعر أن في إمكانه أن يتماهى مع ذلك الطفل الذي يتسلقه. طفل المخيم الذي لا يود سوى أن يرى ما الذي يقع خلف السياج. يمكنني أن أقف بإجلال أمام تلك اللحظة. نتسلق معا سلما طويلا لنرى العالم. يجد الجالوس أن رسومه تعينه على احباط كل محاولة لايقاف الزمن. يتبع أثر عصا الأعمى وهي تطرق أرضا لم تتعرف عليها قدماه من قبل. (أرسم لترى) ليست سوى نصيحة مغرضة. لكنها في حالة الجالوس تكاد تكون واقعا. هذا الرسام لا يرسم ما يراه.

يرسم الجالوس يوميا. نصف نهار من الشقاء المزدوج: امضاؤه الشخصي المؤجل ينتظر في مكان ما فيما الأشكال يمحو بعضها البعض الآخر. هناك دائما حلول جمالية تحيط به تستفزه معالجاتها المفاجئة. يذهب الى اللوحة ومن ثم يعود ليجلس على الكرسي المقابل. ينظر ويدخن وينتظر. يهمه أن يلاحق شبح اللوحة الذي لم يظهر بعد على السطح. الكائن الذي استدرجه إلى الفخ ساخرا منه. تجذبه محاولة فهم سلوك اللوحة الموازي لسلوكه. عالمان يتقاطعان. لا أجوبة محددة وما من وسيلة لفصل حياتين قررتا أن تؤثر الواحدة منهما على الأخرى، بل وتصنع جزء منها. هنا بالتحديد يمكننا الاقتراب من معنى الهوية: هوية الرسام وهوية العمل الفني. مَن يُبدع مَن؟ الباب المفتوح على العدم، هو ذاته الذي يقودنا إلى الحديقة السرية. حين يعثر الرسام على تلك الباب فما عليه سوى أن يواجه مصيره وحيدا. ذلك القدر هو مزيج من الخبرات المنسية  والوقائع الملهمة والرغبات الغامضة والمجازفات والأخطاء والأوقات الضائعة والتمارين الشقية والتأملات والأفكار المحلقة. قدر يستدرج الحواس إلى منافيه بقوة الفتنة التي يوحي بها غير أنه يفني فتنته تلك ما أن يلقي الرسام أول خطواته على أراضيه فيبدأ حينها ألم التجربة. فتنة هي للغواية أقرب تجتذب الرسام لتشتت عدته وتُضعف من اسباب ثقته ويقينه.

 في كل مرحلة جديدة من مراحل تطوره (تغيره) الاسلوبي يدرك الجالوس أن ما أعد له نفسه مختلف تمام الاختلاف عما صار يواجهه. الحيرة نفسها في كل مرة. حينها يزداد شعور الرسام بعزلته. ما من أحد في إمكانه أن يمد له يد العون. العابه القديمة لا تنفع وهو يشعر أن عدته لا تزال ناقصة. في مواجهة كثرة الرسم يكون الرسام أقلية. في كل محاولة رسم تتغير الخرائط فجأة. ومع ذلك فان الرسام ينصرف الى عمله بهمة لا تضعفها كل علامات الفشل التي تنبعث من كل مكان لتتلصص عليه. هنا بالذات علينا أن نتروى.

 ما الذي ينقص الرسام لكي يشعر بكل هذا الوهن؟ هناك فكرة اصيلة تتعلق بجوهر الابداع. الرسم الحقيقي لا يقيم في المكان الذي نعرفه. كل رسم سابق هو محاولة سابقة لا تمكننا من معرفة الرسم الذي توميء لنا أشباحه. ما لا نعرفه من الرسم هو الذي يختزن قوة الخلود. بسبب تلك الفكرة يضحي الرسام الحقيقي بخبراته فيبدو مرتبكا وهو يقف إزاء شيطانات كائناته المتخيلة التي تتربص به في الطريق إلى الرسم. أيجب اعادة تعريف الرسم، بسبب تلك التضحية؟ محاولة عبثية من هذا النوع لا أظنها تنطوي على أية اثارة تذكر. فهي لن تقدم لنا معرفة مضافة.

 شهد الجزء الاعظم من القرن العشرين الكثير من محاولات الوصف، غير أن تلك المحاولات لم تنته بالرسم الحديث إلى تعريف محدد يكون بمثابة معادلا معاصرا لذلك التعريف الذي ظل الرسم سجين عناصره البنيوية والتأويلية طوال القرون السابقة. تعددت التعريفات في القرن العشرين من غير أن تنتهي إلى تعريف الرسم، فنا مطلقا. ذلك لان كل تعريف من تلك التعريفات كان مستلهما من فكر وتجربة تيار فني بعينه. فما انتهى اليه التكعيبيون لم يكن ليصلح مقياسا للتعرف على الرسم السوريالي. وهذا يصح على جميع تيارات الرسم التي سادت في الماضي القريب. تلك التعددية هي في حقيقتها انعكاس لواقع الرسم باعتباره فنا ماكرا لا يقيم في الاناء نفسه مرتين. وكما أرى فان الحالة السائلة التي يعيشها الرسم  كانت دائما مصدرا لغواية الرسامين وهم يتبعون ما ترتجله أياديهم وما يغلف تلك الأيدي من أحلام. في هذه المنطقة بالذات وجد محمد الجالوس راحته. وهي المنطقة التي يعود إليها كلما خفت موازينه أو ارتبكت حيلته البصرية. فهو إذ لا يطمئن إلى أبنيته الصامتة أراه يسدد ضربة فجائية، لا تهدم تلك الأبنية بل تزيحها، بعضها بعيدا عن البعض الآخر، تقلقها، وتفتح ثغرات في جدرانها. وكما أرى فان الجالوس إنما يلجأ إلى عاطفته من اجل اضفاء نوع من الخفة على بنية تصويرية مثقلة بحساباتها العقلانية. ربما الحزن يسبق. كان الارتجال كما قلت سابقا بمثابة الباب الذي انفتح أمام الرسام ليقوده في اتجاه حديقته الشخصية. كان تمرينا للجسد وفي الوقت نفسه كان نوعا من اختبار المواد في عزلتها التعبيرية. بالمعنى الذي يجمع بين طاقة الجسد وقابلية المواد على تمثل تلك الطاقة. يكون الرسم هنا صورة للانفعال اللحظوي. عن طريقه يمكننا التعرف على الحالة النفسية التي يعيشها الرسام. ولقد جازف الجالوس كثيرا في الاعتراف بما يعتريه داخليا من تحولات أثناء فعل الرسم. أكان الجالوس وفق ذلك المعنى يكتب يومياته من خلال الرسم؟ نعم ولا. نعم، لأننا نجد شيئا من سيرته النفسية في لوحاته، ولا، لأنه في واقع حاله رساما كان يمتحن تقنيات فنية، لربما كانت هي الأقرب إلى تقنيات مساره الروحي. ولأن الصور هي معجزات صغيرة حسب تعبير روثكو فقد صار الجالوس كلما أعاد النظر إلى لوحة منه رسمها في وقت سابق يستعيد ذكرى حدث شخصي. ‘هل تذكرها؟’ يقول لي وهو يعرض أمامي أحدى اللوحات التي تعود إلى سنة لقائنا الأول. أنظر إليه فلا أرى الشخص الذي عرضها علي أول مرة. أرى في عينيه سؤالا شبيها بسؤالي. هو الآخر لا يرى الشخص الذي عرض عليه لوحته أول مرة. ‘لقد كبرنا’ وأضيف ‘كم تغيرنا’ هذه المرة ينظر باشفاق إلى لوحته. ‘لا أبحث عن اعتراف أجمل’ يقول لي. يومها كان الجالوس في الثلاثين من عمره، قرر بيسر أن يودع موهبته الأدبية ويزيحها عن طريقه وقرر أيضا أن ينهي بطريقة ذكية ولعه بالرسم العراقي. قرار مزدوج دفع به إلى المجازفة، حيث أصبح رهين سلوكه الشخصي. في ذلك الوقت جاء تعرفه على فن روبرت روشنبرغ ليضع كل شيء في مكانه. حين أذكره برحلته الامريكية لا أرى أي مظهر من السعادة على وجهه. أعرف أنه اكتشف روشنبرغ قبل أن يكتشف أمريكا. لقد تعرف على حرية يده في عمان قبل أن يغادر إلى منفى ضاق به في ما بعد. يعرف أنه لن يستطيع أن يقلد نفسه. يؤسفه أن ما فعله سابقا لن يكون متاحا له. أصغر بعشرين سنة. عقدان من الزمن لن يمكننا سوى النظر إليهما باحترام.

 صديقي اليوم ليس في إمكانه أن يكون صديق الأمس. غير أن هناك شيئا ما لا بد من الاعتراف به: ما كان يفكر به ذلك الشاب الثلاثيني المتمرد لا يزال يقلق صديقي الذي بلغ الخمسين. أعرف أنه لا يقف هناك. بل إنه يلتفت حسرة إلى تلك المرحلة، غير أن شيئا من تلك المرحلة لا يزال يتحرك في أعماقه. لقد  تغير الجالوس كثيرا. هل صار سواه؟ يمكننا الحكم بصعوبة. من يعرفه مثلما أعرفه يبهجه أنه يرى شخصا آخر.  غير أن الحكاية بالنسبة لي تنطوي على اختبار شخصي. ‘هل عشتُ هناك حقا؟’ وهذه الهناك تشمل الزمان والمكان معا. كان لدي يومها المزاج الاستثنائي بتمرده والذي لا يقبل بالتسويات. بقلب صاف اعترفت يومها به رساما. سلوكه رساما عبر بي إلى المناطق الخلوية من روحه. ‘هو ذا رسام حي آخر’ كنت سعيدا بذلك الاكتشاف. الجالوس لم يخذلني, مثلما لم يخذل الشاب الذي كانه. يده لم تفارق مزاجها المتفجر، غير أنه صار يطيع عينيه بما يهبه فرصا متاحة للنظر. ‘هي ذي عمان إذاً’ اقول له فينظر إلي متفاجئا، كما لو أنه يؤنبني. ربما كان مفاجئا لي أن أرى في عينيه بريق عيني ذلك الشاب الذي أتذكره جيدا.

‘ما من لوحة تفشل’ يصمت. فيما بعد أفهم أنه يقصد شيئا آخر. يعرض علي لوحات لم يكملها. آخرى بدأ في العمل عليها مجددا. تظل اللوحة بكائناتها غير المرئية مقيمة تحت السطح. يخفت الالهام وتخف الحماسة فينسحب الرسام من غير أن يعتذر. هناك خطأ في مكان ما. خطأ يجعل من الاستمرار في الرسم نوعا من الحماقة المدوية. ولأن اللوحة الواحدة لا تُرسم مرتين، يقلب الرسام اللوحة التي يشعر أنها صارت لا تستجيب ليده. يخفيها ولا يعود إليها إلا في لحظة الهام شبيه بذلك الالهام الذي دفعه إليها أول مرة. ولكن ما الذي تعنيه لوحة فاشلة؟ ليست اللوحة العصية اوحة فاشلة دائما. نرى الكثير من اللوحات الفاشلة معروضة في اماكن عامة، من غير أن ينتبه رساموها إلى فشلها. لوحات حائرة لا تقول شيئا بعينه، جمالياتها ناقصة، بل ومهدورة بطريقة مجانية.

 لا يهمل الجالوس لوحته المقلوبة، بالرغم من انه يتحاشى النظر إليها. لقد فلت حبل النجاة من بين يديه ذات مرة. شعور الغريق يحاصره في كل مرة يتذكر فيها أنه أخطأ الطريق إلى هدفه. بالنسبة له فان لقاء غامضا قد انمحت آثاره، ذلك اللقاء أخذ معه شيئا من عزيمته، شيئا من برهان العيش. ‘أقيم فيها مثلما تقيم في’ عرض علي واحدة من تلك اللوحات وقد استعادها بعد سنين من النأي والفراق والحيرة. يعيش الرسام مفهوما مختلفا للزمن هو ذلك المفهوم الذي ينبعث من بين ثنايا التجربة الفنية، وهو مفهوم يتخطى التصنيف الخارجي. لذلك فان الرسام يتحرك بحرية واطمئنان في ملعبه الزمني. ماضي التجربة يشتبك بحاضرها، وهما يتنفسان الهواء عينه. يلمسها بحنان. لوحته المستعادة بشوق. يعترف أنه تخلى عن فرص عديدة، كان في إمكانه فيها أن يعود إلى لوحته تلك. اللذة التي تهبها إليه لوحة هي أشبه بالسر أكبر من أن توصف. كان يهوى استعادة انفعاله أولا. الانفعال الذي هو أشبه بالصعقة. حين يكون ذلك الانفعال ممكنا، وهو ما يثق به الرسام، فان اللوحة تعود إليه مثلما يعود إليها بقوة صفاء متخيل، هو صورة عن زمن لم يعشه الاثنان من قبل. لقد كان الجالوس ماكرا في تخليه عن زمن الرسم. سيكون امضاؤه عصيا دائما. ليست لديه لوحة مكتملة. لا يضع امضاءه إلا حين يغادر أرضا، يرى أن العودة إليها ستكون مستحيلة. لذلك فان لوحاته التي يتركها في لحظة فراق عاطفي لن تنتمي إلى المنسيات. يظل التفكير بها يؤرقه. فشله لن يكون مؤكدا إلا إذا انتقل إلى مرحلة جديدة من مراحل سيرته الفنية. حينها يكون مكرهاً على الاعتراف أن هناك لوحة فاشلة قد تُركت في المرسم مقلوبة. وهو ما لم يحدث معه حتى الآن. الجالوس الذي تعلم أن تكون حياته نوعا من الكدح المستمر لن تكون هزيمته يسيرة. لوحة تدير إليه ظهرها إنما تقوي رغبته في مقاومة الرسم المتاح. ‘ليس لدي ما أملكه’ يقصد في الرسم. سيستعين به عليه في أوقات لاحقة. ما على الرسام سوى أن يحترم قرار اللوحة في أن تكون مستقلة. حين لا تنفع الحلول التقنية لا يجد الرسام أمامه سوى التحلي بالصبر. سيكون عليه أن يعترف أن تلك اللوحات كانت جزء من سيرته. يعرض علي عددا منها. تلك اللوحات تنتمي إلى المرحلة الفنية التي لا يزال مستغرقا فيها. ‘في لحظة ما شعرت بالخذلان’ يقول لي ويضيف ‘لذلك تركتها’ أنظر إلى تلك اللوحات وأقول لنفسي:’ستكون محظوظة، ذلك لأنها ستسعد بخبرة لم تكن متوفرة لدى الرسام حين رسمت أول مرة’ المنسيات يقويهن النوم من أجل يقظة أكثر اشراقا.

يستعيد الجالوس اللحظة التي شعر فيها بالانجذاب إلى الرسم، وهي لحظة صنعها بنفسه من خلال سلوك نزق، لم يتبين آفاقه إلا بعد سنوات . ففي سنوات طفولته المبكرة تصدى وحده من بين زملائه في الدرس لرسم صورة توضيحية، كانت مطلوبة لغايات علمية. لم يكن يومها يعرف شيئا عن الرسم ولا مارسه عشوائيا. ولم يكن لديه المال، وهو الذي نشأ في عائلة فقيرة، الذي يعينه على شراء مواد الرسم. غير أنه استبسل يومها من أجل انجاز تلك الصورة. حينها امتزج الرسم بارادته. صار نوعا من التجربة التي يؤكد ذلك الفتى من خلالها وجوده المختلف. صار الرسم هوايته التي لم يقو في ما بعد على محاولاتها لازاحة هواية سبقتها: الكتابة. بسبب تلكما الهوايتين لم يعش الجالوس شغب مراهقته إلا على مستوى خيالي. ذهبت به قراءة الكتب إلى حافات وجود صار ينأى به، فالهمته قوة المضي بعيدا رغبة عارمة في اكتشاف عالم، أدرك أنه موجود، غير أن رؤيته لم تكن ميسرة إلا على الورق. وبسبب تلك الرغبة فقد تغلب الرسم على الكتابة في سنوات التجربة الأولى. لقد أدرك الجالوس في سنوات شبابه الأولى أن شغفه بالصورة هو ما سيفتح أمامه الأبواب للتعرف على ما خفي عليه من اسباب شعوره بالاختلاف. يومها تحدد مصيره رساما. وهو مصير لا يزال بالنسبة لرسام من نوع الجالوس غامضا. فأي معنى تنطوي عليه مهمة أن يكون المرء رساما؟ يقهر الرسام المعنى بالصورة ومن ثم يبحث عن معنى لحياته. سيرته وهو يلتقط تفاصيل حياة لم يعشها واقعيا، بل جمع فتاتها حدسيا. كانت حواسه جسرا إلى ما لا يمكن القبض عليه حسيا.

 أية مفارقة تكمن في أن يكتب المرء يومياته باسلوب لا يتمكن من خلاله من استعادة تلك المنسيات بطريقة وثائقية. متعة تظل مقيمة في العين التي تمزج بين وقائع الحياة ووقائع الرسم. وإذا ما كانت بعض اللوحات تكشف بطريقة أو بأخرى عن وقائع الحياة التي تستلهمها فان وقائع الرسم تظل أسيرة اليد التي صنعت خرائط ذلك التيه. شيء عظيم من شخصية الجالوس انما يظل كامنا في تلك المتعة الخفية التي تصنعها وقائع الرسام. رسام متعوي هو أشبه بالراعي الذي يعنيه أن يشكل صوت نايه إيقاعا لمشية خرافه في حقول لم يرتادها أحد من قبل. يلخص كل حكاياته في حكاية واحدة: غرامه القابض على  كل الجهات. سيرى الرسام صورته بين تلك الصور المبعثرة بين مربعات لوحته. لا يهمه أن يتعرف عليها. حينها يكون مشغولا بالحرث: باسلوب متعوي هو الآخر يمهد الجالوس للوحته. صار يفعل ذلك في وقت متأخر. قبل سنوات كان يباشر فعل الرسم من غير تمهيد مسبق. كانت الأشكال تسقط على سطح اللوحة من بين ثنايا الفرشاة. وحشيته تلك هذبها الزمن. لم يهدأ انفعاله بقدر ما تخلى عن صخبه. صار ذلك الانفعال ينبثق بطريقة تأملية من سطح اللوحة. يبدو تاثير المعاشرة واضحا من خلال هذه النقطة بالذات. فاللوحة لم تعد عدوا، يفكر الجالوس في الانتصار عليه. والرسم لم يعد معركة لاثبات الوجود. ثلاثون سنة من الرسم تكفي لكي يتعرف المرء على جزء من السر العظيم الذي أفنى المرء حياته كلها من أجله. في البدء يبذل المرء أقصى ما يملك من جهود لكي يكون رساما، وفي لحظة ما من لحظات نشوته يبدأ بالتساؤل المرير: لمَ قُدر له من دون الناس أن يكون رساما؟ في تلك اللحظة يقوى الرسام على الاعتراف بانتصار الرسم عليه.

,

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *