رائحة نابلس


زرت مدينة نابلس مؤخرا ، احد الاماكن التي أحب ، وشممت رائحة الياسمين وأنا أعبر حاراتها العتيقة التي تحكي تاريخ المدينة العريق ببيوتها التراثية وأهلها الذين عرفوا باعتزازهم بمدينتهم’الفاضلة’. زيارتي التي أسعدتني وأنا لم أسافر اليها في’ الحقيقة’بل حصلت وأنا’أتفرج’على لوحات الفنان محمد الجالوس في المركز الثقافي الملكي في عمان مع حشد ممن يحب تلك المدينة مثلي . والمحبة لهذه المدينة تأتي من معرفتي بتاريخها وأهلها الذين لهم خصوصية سواء باللهجة ، أو ‘بكنافتها أو جبنها’ أو ما اشتهرت نساؤها’ بطبخه’ كاللفت المحشي واللخنة وغيرهما من الاطعمة التراثية . ولعل جبل عيبال حارس تاريخها ونضالها الوطني ما يجعل لها خصوصية جغرافية أيضا.

أتقن الفنان لوحاته الجميلة الدافئة ، ليس بالريشة واللون فقط ، بل ببعث الحياة في الحارات والازقة التي مشيتها معه. عرفني الفنان على الحارات والازقة التي شهدت كفاح أهل نابلس تحت الانتداب البريطاني في النصف الاول من القرن الماضي . وقد عرفتها وبقية المدن الفلسطينية ، بمحبة وأنا أكتب كتاب( صحافة فلسطين والحركة الوطنية في نصف قرن – 1900 – 1948 ) 2005 . كنت وانا أكتب أعيش مع الوطنيين والمناضلين والمجاهدين والثوار وأشهد على ما قاموا به من أعمال بطولية لمحاربة الاستعمار الانجلو – صهيوني الذي تكالب على فلسطين . وقد عشت مع جميع طبقات الشعب الفلسطيني الذي هب في ثورته العظيمة عام( 1936 – 1939 ) والتي بدأت باضراب الشهور الستة – أطول اضراب في التاريخ – ( 22ابريل – 12 أكتوبر (1936) . وجاءت الدعوة للاضراب بعد حادثة أشعلت الشرارة الاولى للثورة على اثر قتل اثنين من اليهود على أيدي جماعة القسام على طريق نابلس طولكرم . اتحدت الاحزاب الفلسطينية رغم خلافاتها والتزمت الحركة الوطنية والصحافة بالاضراب. وظل الفلاح الفلسطيني الثائر على أجندة الصحافة كشريك أساسي في الثورة وقد عانى من ملاحقة السلطات البريطانية له ولارضه.

دخلت وأنا أكتب مع التاريخ (حيّ الياسمينة) في اليوم الرابع من الاضراب . فقد قام تجار حي الياسمينة بجمع مفاتيح دكاكينهم وربطوها بحبل وقدموها للجنة الاضراب’حتى يفك الاضراب’ . وقد هللت لهم جريدة فلسطين التي نشرت الخبر . مواقف تلك الحارة وياسمينها كانت ولا زالت موضع اعجاب وتقدير من الكتاب والفنانين وقد ذكرتها أكثر من مرة في مقالاتي’ السياسية’ كما كتب روائيون وقاصون وشعراء بمحبة عن الياسمين ، كما في كتاب طلعت شناعة (حارة الياسمينة ) ، (1994).

اليوم ونابلس تواصل التزامها بالوقوف ضد المحتل لتحمي بيوتها ، تظل رائحة الياسمين التي أصبحت جزءا من هويتها ، تفوح من حاراتها كما تفوح منها رائحة البارود ضد من يحاول دفن التاريخ بعد أكثر من60 عاما من الصمود وحب الوطن

,

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *