معرض وحفل توقيع كتاب ‘ثلاثون عاما في الرسم’
غسان مفاضلة
عمان– ما أن تحدّق في الأثر المتبقي من مسحة الوجوه على سطح لوحته، حتى تدرك أن التشكيلي محمد الجالوس لم يغادر التخوم المتحركة بين حدود الذاّكرة والنسيان، وأنه ما يزال يرسم من على تلك التخوم سيرة المرئي ببصيرة الأعمى وعصاه.
الوجوه التي استحالت في أعمال معرضه، الذي افتتح مساء أول من أمس في غاليري بنك القاهرة، إلى وحدة تجريدية، لم تتخل عن مسحتها التعبيرية، بل راحت تشي بأثرها المترسب في حكاية الزمن الناغل بين قطبي الحضور والغياب.
نحو 50 لوحة اشتمل عليها معرض الفنان، الذي درس الفن في معهد الفنون الجميلة بعمان بين عامي 1979 و1981 والحاصل على بكالوريوس إدارة الأعمال من الجامعة الأردنية، تمثل آخر نتاجات الجالوس الفنية التي أنجزها ما بين عامي 2008 و2010، والتي جاءت ضمن سياق بحثه الفني في الوجوه والخامات الأبحاث الفنية على الشكل والرؤى الجديدة التي تشي بها أعماله.
وترافق افتتاح المعرض، الذي حضره العديد من الفنانين والكتاب، حفل توقيع كتاب ‘ثلاثون عاما في الرسم’ الصادر عن دار الأديب للنشر. وضم الكتاب المراحل الفنية المختلفة التي مر بها الفنان منذ العام 1980 وحتى الآن، وهو كتاب مجلد من القطع الكبير كتب له الدراسة النقدية والتقديم، الشاعر والناقد العراقي المقيم في السويد فاروق يوسف.
ويرى الناقد يوسف أن حكايته الجالوس مع الرسم هي ذاتها حكايته مع ذاته المتمردة والذاهبة إلى تشظيها بين خيارات متعددة ‘لم يتخذ من الرسم وسيلة للوصف أو الشرح أو المباهاة، كان لديه دائما ما يقوله مختلفا، لكن بطريقة حساسة لا تستثني الجمال من توق التحرر من أيقونيته’.
كما يرى أن ‘أسلوب عيش داخل الرسم حول الرسام إلى ذلك الاستثناء الذي صاره، نزعته الجمالية المتشددة جعلته لا ينصت إلا إلى الأصوات التي تشكل جزء من إيقاع ما يزال غامضا، ولم يتخذ بعد هيئته التي تمكن البصر من الإمساك به’.
ويلفت إلى أن الوفاء لتلك النزعة تجسد في امتزاج يد الرسام بمادته ‘حيث كان الرسم يصدر عن فعل الرسم لذاته. جماليات تنعم بحيويتها التي هي الملهمة في الوقت عينه. لقد ارتبط الأسلوب الشخصي لدى الجلوس بمستوى تحرره من ذاته الاجتماعية والثقافية وامتزاجه بما يتطلبه فعل الرسم من تخل عن العالم الخارجي. يدخل الرسام إلى اللوحة البيضاء ليقيم هناك. ينغمس في اضطراب الأصباغ لينسى ما يمكن أن تتركه تلك الأصباغ من إيحاءات رمزية’.
ويبيّن أن الجالوس يزيح عن سطح لوحته كل أوهام الماضي. ‘يعيد ذلك السطح إلى الحاضر. في الخمسين من عمره ما يزال يشعر أن في إمكانه أن يتماهى مع ذلك الطفل الذي يتسلقه. طفل المخيم الذي لا يود سوى أن يرى ما الذي يقع خلف السياج’.
ويضيف يوسف ‘يجد الجالوس أن رسومه تعينه على إحباط كل محاولة لإيقاف الزمن. يتبع أثر عصا الأعمى وهي تطرق أرضا لم تتعرف عليها قدماه من قبل. (أرسم لترى) ليست سوى نصيحة مغرضة. لكنها في حالة الجالوس تكاد تكون واقعا. هذا الرسام لا يرسم ما يراه’.
فيما يرى الناقد والفنان طلال معلا أن لكل وجه من هذه الوجوه عند الجالوس ‘له مأزقه ومحنته، أحلامه ورؤاه وشروطه وأسراره، وإذا كانت هذه الوجوه بتعددها تحمل مسارات وعي المبدع من جهة، فإنها بلا شك تحمل وعي الرائي والناقد والمحاور، لمعاني الدهشة المتولدة من كون هذه الوجوه، بوابات تنقلنا إلى مجالات أبعد مما نتوقعه، أو نحاول الوصول إليه، عبر ديمومة العلاقة بين الميلاد والفناء، البذرة المدفونة والثمرة التي تمنح الحياة’.
من جهته قال الفنان والناقد محمد أبو زريق أن الجالوس ظل طوال تجربة تمتد لأكثر من ثلاثين عاما مسكونا بالتجديد والبحث، وهو فنان ‘تحكمه نزعة التجريب، ولا يرتكن إلى منجز تشكيلي محدد وموصوف، لذلك فهو دائم البحث عن أساليب وتقنيات وخامات ، كما أنه دائم البحث عن الجديد، وليس لديه من ثوابت أو مقدسات في العمل الفني، ولكنه مخلص لفنه ولذاته، وهذا أعطاه حرية الاصطفاف مع ذاته وفنه، دونما استجداء لحالة فنية مسبقة، ودونما ارتهان إلى قيم ذات أبعاد محددة ومفروضة من خارج العمل الفني’.
أقام الجالوس، الذي ترأس رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين بين عامي 2003-2004، أكثر من ثلاثين معرض شخصيا وعرضت أعماله في أكثر من عاصمة ومدينة داخل وخارج الأردن وفي أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، إلى جانب مشاركته النشطة والواسعة في العديد من المعارض الدولية ورشات العمل في مختلف دول العالم، وقد فاز في العام 2002 بالجائزة الأولى في بينالي طهران الثاني للفن في العالم الإسلامي، وهي المسابقة التي اعتبرت بداية مهمة لفوز الأعمال الفنية العربية في بيناليات ذات سمعة عالمية ومنافسة قوية.