الجالوس إذ يرسم حارة الياسمينة.. عبق المكان


رسمي الجراح * – يقول الفنان التشكيلي الأردني محمد الجالوس في شهادة عن تجربته رسم المدن: هي محطة أعيد بها علاقتي بالطبيعة كمرجع للتجريد الذي أنتمي إليه وأحبه، حيث أرمم ما انكسر في علاقتي بالمرئي وأترك وثيقة للمكان، وهي جزء من عملي كرسام ، والجالوس بذلك يعيد بعث المكان من جديد من خلال ريشته التي ترصد مفردات المكان وسحر تفاصيله..


وتاليا مقتطفات من شهادته عن مشروع حارة الياسمينة النابلسية، التي زارها في العام 1998، وأصرّ على توثيقها بالصورة ليعيد رسمها بعد أن هدمت في العام 200 من قبل الجيش الاسرائيلي.


 هناك في العام 1996 عندما رسمت مدينة السلط، بحجارتها الذهبية التي قدت من جبال البلقاء، كان الكل يذكّرني بالشبه الكبير بين نابلس والسلط، وكنت أحسّ في حجارة المدينة أن ثمة ما هو أكثر من الشبه المعماري، فأهل نابلس الذين هاجروا إلى السلط في مطلع القرن الماضي أو بعد النكبة الأولى، أصبحوا من أهلها بامتياز، يحتفظون أو هكذا جداتهم وأجدادهم، بالعادات النابلسية القديمة، بنوا بيوتهم كما فعلوا في نابلس تماماً، بالعقل المعماري المبدع والبدائي نفسه، وقد وجدوا في أهل السلط، أنصاراً حقيقيين، ضيقوا وحشة الجغرافيا وتواصلوا مع حقيقة التاريخ. العربة تقترب أكثر فأكثر.. ونابلس تطل من بعيد، للوهلة الأولى ظننت أنني في السلط، فهذا الوادي الذي يفصل جبلَي المدينة، هو الوادي نفسه الذي يقسم السلط إلى قسمين.


ها أنذا أرسم الحارات، ألون الظلال التي وقفت تحتها، كنت ألوذ بها تحت وطأة الشمس الحارقة وأستعير منها لغة الياسمين وأتفيأ بأغصان النارنج. مرت سنوات طويلة قبل أن أفتح علبة الذكريات، وأقلِّب صور ورسومات نابلس، وتلك الحارة التي امتدت إليها يد العدو الصهيوني بالتدمير في الانتفاضة الثانية، لقد ظلت عصية على دوريات الاحتلال، بأزقتها الضيقة، ولم تمنح بواباتها للجنود، يحرسها الشباب في الليل وفي النهار يغلقون مداخلها بالحجارة والطوب، كانت الحارة لعنتهم وياسمينها عدوهم اللدود.


مرت أعوام عشرة على زيارتي لنابلس، وذات مساء عمّاني، ومن شرفة بيتي المطلة على صحن المدينة، كنت أحدث صديق طفولتي وابن مخيمي، ناصر عبد الكريم، حول تلك الرحلة، وعن حلمي برسم ما رأيت، وحفظه للتاريخ. لم يعلق صاحبي في تلك الليلة، لكنه ظل يفكر في الأمر، استسلم كما فعلت، لحلم جميل.. الحارة تنهض من دمارها وتنفض عنها غبار القذائف التي طالت مسجدها القديم، وياسمين بيوتها الأزلي، لم يعلق يومها، فقط هاتفني في صباح اليوم التالي، وقال: لماذا لا ترسم نابلس، ولماذا لا تبدأ اليوم بتوثيق ما رأيت وما تعرض للهدم والدمار. قلت: هل تعتقد ذلك؟ هل الوقت مناسب؟.. قال: الوقت مناسب دائماً للعمل من أجل فلسطين، أنت منذ اليوم، رهن الياسمين.


بهذه العبارة، وجدتني أعبر نابلس، تعبرني الحارة، تملأ قلبي ووقتي، لأقدم لصديقي ناصر، عنوان محبة، وهو زارع الياسمين كما أحب أن أسميه، وللحارة درة نابلس وحاملة أسرارها، وأسرار أهلها الطيبين، الذين ما يزالون يسقون بدمهم شتلات الياسمين لتظل تتعربش على مداخل بيوتهم وتحفظ لهم ولجدّي، ذكريات رحلة الشام الصباحية، حكاية جبل النار.


منذ العام 1992 وأنا أرسم المدن التي أحب، تقليد أخذته على نفسي من زمان، بدأته بمدينة الفحيص الأردنية ثم السلط وصولاً إلى القدس في العام 2000، وهي محطة أعيد بها علاقتي بالطبيعة كمرجع للتجريد الذي أنتمي له، حيث أعيد بناء ما انكسر في علاقتي بالمرئي وأترك وثيقة للمكان هي جزء من مهمتي كرسام .
حارة الياسمينة بعبقها ونهارها وشغب أطفالها وحزنها سيكون لها في السابعة من مساء السبت 21 نيسان 2008 في المركز الثقافي الملكي حضور طاغ من خلال لوحات الفنان الجالوس، إذ سيكون المتلقي ضيف حارة الياسمينة.
* صحفي أردني

,

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *