حين توصلنا اللوحة الى ذواتنا
العمل الابداعي الحقيقي ميلاد جديد متجدد لهذا الكون، و يعني دائما ان الكون يملك جمالية حرة تتناثر فينا، و يدركها فنان واحد فقط، من هنا تاتي اهميته كفنان، و هو يبحث عنا جميعا فينا، ليوصلنا الى انفسنا، ليرينا اي عالم قائم في داخلنا و لا ندركه، لذلك تاتي بهجة الاكتشافحرة ايضا كمهر عصي عن الترويض، و عصي على الظل، و عصي على الاسود الليلي، و مائل للشمس.
من هنا تاتي اهمية كثير من الاعمال الفنية الجديدة للفنان محمد الجالوس في معرضه الرابع، اهمية تئكد ذاتها انسانيا، و فنيا، حيث لا تملك الا ان تتوقف كثيرا امام هذا المعرض، و تبتهج، لان عالما جديدا تكون و انتقل اليك، انت الذي تشاهد اللوحة و تبحث عن وضوحها الغامض الاليف.
كما ان تعامل الفنان مع الوانه جاء خاصا و حميما و شفافا، حتى ان بعض هذه اللوحات يشكل قميه جمالية خاصة، كسرة حدة تجريديتها الروح اللونية الباهرة، كما في (تكوين 1)، و لعلنا لا نستطيع تجاوز هذه اللوحة ببساطة، فعلى الرغم من غياب العنصر البشري من تكوينها، الا ان روحا بشرية تسكنها بصخب طفولي فذ.
و على الرغم من عدم ميلي الى التجريد المطلق في الاعمال الفنية، خاصة و ان تاريخ الحركة الفنية العالمية يثبت لنا ان اكثر الاعمال بقاء هي تلك التي تقبض على لحظة التحول الانساني و التوق الانساني للحياة، و يشكل الانسان نبض حركاتها، بدءا من تلك الاعمال القادمة من وادي النيل قديما، و مرورا بكل ما انتج بعد ذلك حتى غويا و غوغان و فان كوخ، و بيكاسو في ‘الجاربيكا’و غيرهم اقول رغم ذلك تظهر اعمال تجريديه تتجاوز لعبة اللون او التجربة اللونية الخالصة لتصل الينا بحس انساني ممتلئ.
هل لانها خاطبت ‘لا وعينا’ و هل التقى هذا اللا وعي مع لا وعي الفنان اثناء تنفيذها كما يقول بعض علماء النفس، حول مسالة التقاء ‘لا وعي’ بـ ‘لا وعي’ اخر، بمعنى ان الاتصال الانساني يتم حتى في ظل غياب لغة حوار واضحة، ربما….
لكن هذه واحدة من اللوحات التي ترى فيها جسد الفرح، و تقبض فيها على الهواء، و تدور في العالم الجديد للفنان محمد الجالوس، و الذي اراه في هذا المعرض امسك بنفسه حين امسك بخصوصيته، فتجد ان تلك الاعمال التي يمثل العنصر البشري عمادها، تؤكد حضورا خاصا يتجلى في لوحة ‘سوق’ و ‘نساء المخيم’، هنا تجد كل شيء يتحرك، البشر، البيوت، الالوان، و لعل ما منح اللوحة كل هذه الحركة الدائمة ذلك العنف المطمئن لحركة الفرشاة حتى انك تكاد تسمع موسيقى كارل اورف في رائعته ‘كارمينا بورانا’، فثة هدوء متفجر مشحون دائم الحركه، يكاد يختفي ثم ينبثق فجاةمعلنا عن اقصي ما في الروح من تمرد، تناغم خاص يتجاوز سطح اللوحة و يسري الى دمك.
هذه الاعمال الثلاثة تشكل عصارة الروح في هذا المعرض و قمة التجربة فيه، و هي اعمال كبيرة تنتمي اليها معظم اللوحات.
انه معرض خاص خارج من رحم البحث الدائم عن الاجمل، يسكنك الكثير من اعماله، لانه يمنحك افقا انسانيا جماليا رحبا، في زمن ضيق .. ضيق.
ابراهيم نصر الله